هل قطع أصحاب العقائد الباطلة مبرءٌ للذمّة؟
مقطعٌ مقتبسٌ من درس الشيخ علي الجزيري حفظه الله في ليلة السبت 12 شوال 1438 هـ
أمّا سؤالكم عن حجيّة القطع وأنّ القطع إذا كان حجة، فهو سلاحٌ ذو حدين لأنّ أصحاب اليقين : منهم المحق ومنهم المُبطِلُ، فإذا كان اليقينُ عُذراً للمحق، فهو عُذرٌ للمبطل أيضا؛ لأنّ الأحكام العقلية لا تقبُل التخصيص، فلا يصحّ – مثلاً- أن يُقال أنّ حكماً عقلياً (كاستحالة إجتماع النقيضين) يجري في الليل ولا يجري في النهار، أو إنهما لا يجتمعان في الشتاء ولكنهما يجتمعان في الصيف ، فهذا أمرٌ لا يُعقل.
بل الأحكام العقلية عامّة، لا تقبل التخصيص، فإذا كان اليقين والقطع عذراً فهو عُذرٌ للمحق والمبطل.
فهل تلتزموون يا أتباع الأديان بأنّ اليقين عذرٌ للمبطل حتى وإن أبطل الأديان، أو اعتقد بدين غير دينكم؟!
فهذا سؤالٌ عامٌ.
وينبغي أن يجعل السؤال عن حكمين :
1 - أهل الباطل ، المستيقنون بباطلهم ، هل يدخلون الجنة؟
2 - : أهل الباطل ، إذا كانوا مستيقنين بباطلهم ، هل يدخلون النار؟
أما السؤال عن الحكم الأول :
فالجواب عنه ظاهر ، لأن الجنة ملك لله تعالى ، وله سبحانه أن يعطيها من يشاء ، وأن يعد من يريد سبحانه بها.
فلو أن تاجرا وعد أن يعطي هدية من ماله للطلاب الذين ولدوا في شهر شعبان مثلا ، فهل لأحد أن يعترض عليه؟!
وأما السؤال عن الحكم الثاني :
فالجواب عنه يختلف بإختلاف المبنى الذي نلتزمُ به:
وسوف أجيبك على مبنى الشيخ الأنصاري رحمه الله، وعلى مبنى الشهيد الصدر رحمه الله.
مبنى الشيخ الأنصاري رحمه الله:
أمّأ على مبنى الشيخ الأنصاري رحمه الله - الذي يقول بأنّ اليقين حجة مهما كان مصدره ومنشؤه، ومهما كان متعلقه - : فاليقين حجّة للجميع، لأنّ "حجية القطع ذاتية ، لا تنالها يد الجعل وضعاً ولا رفعاً".
ولو وجهنا هذا السؤال للشيخ الأنصاري، فبماذا يجيب؟
سيقول: نعم ، إذا حصل اليقينُ فهو عذرٌ للمحق والمبطل.
ولكن ، هل تحتمل أنّ المبطل تصل قناعته بباطله إلى حد يقينٍ ، والجزم ، ولا يحتمل غيره ولو احتمالا ضئيلا؟!
أم هو يزعم أنّه على يقين؟!
سيقول لك الشيخ الأنصاري : أنت تقول إنّه على يقين، وأمّا أنا فلا أُقرُّ لك بذلك.
وقد قال الشيخ الأنصاري عن أهل زمانه : إنهم يعاملون الظن معاملة اليقين.
إذن : في حق كثير من حالات اليقين بالباطل، بل في أكثر الحالات، بل الغالب منها – إلا ما ندر– لا يوجد يقينٌ عند المبطلين، وإنّما يزعمون أنهم على يقين وليسوا كذلك، قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم).
فغالبُ هؤلاء ليسوا على يقين.
وهذا جوابٌ خاص بالقسم الأكبر من أهل الباطل.
ولكن ما قول الشيخ الأنصاري بشأن القسم النادر؟
هل يمكنُ إنكار وجود أناس من أهل الباطل يجزمون بباطلهم؟
لا ، لا يمكن ذلك.
بل يُوجدُ أناس من أهل الباطل على يقين من باطلهم.
وهنا يقول الشيخ الأنصاري: نأتي إلى هذا القليل.
مثلاً : - ولنتكلم بالأرقام، فإنه أوضح - :
من أصل ألف شخص من أهل الباطل يدّعون أنهم على يقين، الشيخ الأنصاري يقول أنّ 990 شخصاً ليسوا على يقين، وأنما يكذبون ويقولون: "نحن متيقنون" وهم غير متيقنين؛ لأنّهم يحتملون صحة الرأي الآخر، وهذا الإحتمال ولو كان إحتمالاً ضعيفاً كنسبة (واحد من ألف) أو (واحد من مئة ألف) أو (واحد من مليون) فهم ليسوا على يقين، وإنما يزعمون أنهم على يقين.
هذا في حق ال 990 شخص، وبقي 10 في الألف، فما رأي الشيخ الانصاري فيهم؟
يقول : إنّ هؤلاء العشرة يقينهم حجّة ، فلا يعاقبون على اتباعهم ليقينهم.
ولكنهم يعاقبون على تفريطهم وتساهلهم في المقدمات التي أوصلتهم لليقين بالباطل، لأنهم سلكوا طرقاً لا تورث اليقين، أو تورث اليقين بالباطل.
أي : إنهم حينما سلكوا هذا الطريق لم يكونوا على يقين من الباطل، ولكنهم سلكوا الطريق الذي يورث اليقين بالباطل، فيعاقبون على ما قبل اليقين – ولنسمه قرارهم في (مفترق الطرق)- لا على اليقين.
وللتوضيح أضرب مثالاً:
من يُلقي بنفسه من شاهق - كمبنى يتألف من مئة طابق- ، فهو عندما كان على حافة البناية كان مختاراً ، يقدر أن يقفز ، ويقدر أن يحمي نفسه ويتراجع، ولكن بعد أن قفز، فهل هو مختار؟ وهل هو قادر على إنقاذ نفسه من الهلكة؟ لا ، ليس مختاراً ، ولا قادرا على حماية نفسه من الموت.
فهو [أثناء السقوط] لا يكلّف ، ولا يقال له : احفظ نفسك من الهلاك ، ولا يقال له : لماذا تهلك نفسك، لأن هذا ليس باختياره.
ولكنهُ يعاقب على اختياره الطريق الذي يوصله إلى الهلاك ، فيقال له : لماذا رميت نفسك من مرتفع شاهق بحيث صرت عاجزاً عن حماية نفسك من السقوط.
وهكذا من يسلك طريقاً يُوصله إلى اليقين بالباطل ، فإنه يُعاقب على تفريطه وتقصيره في مفترق الطرق.
وهذا الجواب الثاني خاصٌ بالقسم الأصغر من أهل الباطل ، وهم العشرة من الألف.
ولعلك تقول: ليسوا جميعاً كان بإختيارهم أن يسلكوا الطريق الذي يؤدي إلى الرشاد وإلى اليقين بالحق، فمثلا: لو أنّ واحداً من العشرة لم يكن في مقدوره أن يسلك الطريق الصحيح، فما هو حكمك في حقه؟
يقول الشيخ الأنصاري: حكمي في حق هذا : إنه معذور.
فهذا عنده معذور، ولكنه (النادرُ من النادر).
وفي مثالنا - لأننا مثلنا برقم نريد أن يكون قريباً من المألوف- هو واحدٌ من الألف، ولكن الشيخ الأنصاري لا يرى وجود هذا العدد من (المبطلين المعذورين) ، بل يراهم أقل من ذلك.
انتهينا من الجواب على طريقة تفكير الشيخ الأنصاري.
مبنى الشهيد الصدر رحمه الله:
أمّأ على طريقة تفكير الشهيد الصدر رحمه الله:
فإنه لا يرى أنّ كل يقينٍ حجّة، بل اليقين الحجة عند الشهيد الصدر : هو المبني على أسس موضوعيّة، تفيد اليقين.
فإذا بنى يقينه على أسس موضوعية فهو معذور، وإلا فلا.
وهل بنى أهل الباطل يقينهم على أسس موضوعية؟
إن قلت : لا ، فهم غيرُ معذورين عنده.
فحكمهم على مبنى الشهيد الصدر محسوم من أول الأمر.
والمتحصل :
إن هناك منهجين في التفكير:
منهج الشيخ الأنصاري ومنهج الشهيد الصدر، ولكل منهج طريقة في الجواب.
-----
[ سؤال من أحد الحضور: ]
يكفي أن تكون هذه الأسس قابلة للنقاش لإنتاج أنّ هذه الأسس غير موضوعيّة، لأنها – المقصود بأنها موضوعية أنها سبب طبيعي لليقين- وما دامت محلاً للنقاش فهي ليست سبباً موضوعياً لليقين.
[ سؤالٌ آخر : ]
إذا كان غافلاً عن تلك الاستدلالات ، أو كان عقله قاصرا عن إدراك خلل تلك الاستدلالات، فيقال له: لماذا تخوض في شيءٍ وأنت لست أهلاً له، وبالمثل العربي يقال "ليس هذا بعشك فأدرجي".
الفقهاء يقولون: الفلسفة لا يجوز أن يدرسها من لم يكن واجداً للقدرة العقلية التي تؤهله لسماع هذه الأدلة ومعرفة موطن الخلل فيها، فمن يلتبس عليه الأمر لا يجوز له دراسة الفلسفة.
فإذن : هذا يعاقب على أصل سلوك الطريق الذي أوصله لليقين بالباطل.