السائل: في هذه الفترة، أُثير كلامٌ من قبل البعض حول كلمة للشيخ الوحيد الخراساني (دام ظلّه) في كتاب (مقتطفات ولائية)، حيث يقول الشيخ الوحيد متحدّثًا عن الإمام الحجة (عجّل الله فرجه الشريف):
" نعم، كلُّ ما بقي هو ذلك السيِّد، وأيُّ مولًى هو؟ وذلك الكريم الجواد، وأيُّ كريم وجواد هو؟ اللهم إلا أن يتلطَّف علينا ببركة دم جدِّه الحسين (عليه السلام) ... وإلاّ فلَسْنا حتى في مقام كلبٍ مَدَّ على أعتاب دارهم ذراعيه وهَزَّ أمامهم ذَنَبَه ... كلاَّ، فنحن أقلُّ من كلبٍ وأسوأ! ".([1])
البعض يعترض ويقول إنّ في هذا مخالفةً للآية القرآنية (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ...)([2])، وإنّ هذه الكلمة وأمثالها هي سببُ أن يقوم البعضُ ببعض المظاهر في عاشوراء من تسمية أنفسهم بكذا وكذا، وببعض الممارسات التي تحصل عند العتبات المقدّسة. ما تعليقكم؟
[1] مقتطفات ولائية، للمرجع الشيخ الوحيد الخراساني دام ظله الوارف (ترجمة عبّاس بن نخي)، ص 30 ، طبعة دار المحجّة البيضاء، الطبعة الأولى، عام 2002م.
[2] سورة الإسراء: الآية 70
توضيح لما في كتاب مقتطفات ولائية لسماحة المرجع الديني الشيخ الوحيد الخراساني دام ظله الوارف
(تاريخ المحاضرة: 19 محرّم الحرام 1438 هـ - 21 أكتوبر 2016م)
السائل: في هذه الفترة، أُثير كلامٌ من قبل البعض حول كلمة للشيخ الوحيد الخراساني (دام ظلّه) في كتاب (مقتطفات ولائية)، حيث يقول الشيخ الوحيد متحدّثًا عن الإمام الحجة (عجّل الله فرجه الشريف):
" نعم، كلُّ ما بقي هو ذلك السيِّد، وأيُّ مولًى هو؟ وذلك الكريم الجواد، وأيُّ كريم وجواد هو؟ اللهم إلا أن يتلطَّف علينا ببركة دم جدِّه الحسين (عليه السلام) ... وإلاّ فلَسْنا حتى في مقام كلبٍ مَدَّ على أعتاب دارهم ذراعيه وهَزَّ أمامهم ذَنَبَه ... كلاَّ، فنحن أقلُّ من كلبٍ وأسوأ! ".([1])
البعض يعترض ويقول إنّ في هذا مخالفةً للآية القرآنية (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ...)([2])، وإنّ هذه الكلمة وأمثالها هي سببُ أن يقوم البعضُ ببعض المظاهر في عاشوراء من تسمية أنفسهم بكذا وكذا، وببعض الممارسات التي تحصل عند العتبات المقدّسة. ما تعليقكم؟
الشيخ علي الجزيري (حفظه الله):
مقدمة:
بالنسبة لسؤالكم عن الكلام الذي في كتاب مقتطفات ولائية في خطبة سماحة الشيخ المرجع الرفيع الشأن والعالم الرباني، قطب دائرة التحقيق وزعيم الحوزة العلمية لأكثر من ثلاثين سنة[3]، شيخ العلماء، بقيّة السلف، من هو فوق الوصف في العلم والعمل، وكمالاته يقصر عن بيانها لساني، وله من الكمالات ما لا يرضى هو (مدّ الله ظلّه) بذكره وبيانه، هو (حفظه الله) له بيت من الشعر يقول فيه:
وحيدم من أگر در جرم وتقصير *** سگي بودم شدم در كوي تو پير
يُخاطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، يقول إن كُنت فريد عصري في ذنوبي وتقصيري فإنني قد كَبرتْ سنّي وهرمتُ على بابكم. وهذا تعبيرٌ مؤدّبٌ مع أمير المؤمنين (عليه السلام) واستعطافٌ له. في العادة، العوائل التي لها بساتين يكون عندها كلاب لحماية البساتين، والكلاب لها عمر نافع معيّن ثم بعد ذلك تشيخ وتضعف وتصبح كَلاًّ على أصحابها. عادةُ أصحابِ البساتين من غير العوائل النجيبة أن تَطردَ الكلاب لكي تتخلّص من عبئها عليها، أمّا ذوو البيوتات الرفيعة فمن أدبهم ألّا يطردوا كلابهم حتى وإن شاخ وإن صار عبئًا عليهم ويثقل ميزانيتهم. يقولون لا بأس، نتحمّل لأنّه ليس من شيمنا أن نطرد من جاوَرَنا سنين طويلة.
طمعٌ في كرمِ آل محمد (عليهم السلام):
فهو يُخاطب أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذا الأَدب أن العوائل النجيبة التي لا تطرد كلابها -بعد أن تخرج عن الانتفاع- ليست أكثر نجابةً منكم يا أهل البيت. إن كان في العالم شرفٌ فَمِن محمدٍ (صلى الله عليه وآله) وأهلِ بيته، وإن كان في الدنيا نجابةٌ فإنما خرجت من هذا البيت، فحال من يشيخُ على بابهم (عليهم السلام) ويسقط عن الانتفاع في الصورة التي رسمها الشيخ الوحيد (حفظه الله) -على الأقل عن نفسه فهو يقول أنا أتحدث عن نفسي لا أدخل أحدًا معي في هذا، أنا أصف نفسي بهذا- هو يقول حال مَنْ يَكبُر سنّه ويسقط عن الفائدة عند أهل هذا البيت النجيب الذي هو مصدر النجابة والشرف فليكن كحالِ الكلب عند العائلة النجيبة التي لا تَطردُ كلبها، فالذي أرجوه من كرمكم ونجابتكم ليس أمرًا يرتبط بعملي وفضلي فإنه ليس لي شأن وليس لي فضل، وإنما أنا أرجو كرمكم لأني بقيتُ ملازمًا أعتابكم طول هذه السنين.
وهو (مدّ الله في عمره) كل هذه السنوات يُدافع عن الدين ويخدم بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فحقيقٌ به أن يقول إني لأرجو -وأنا قد نافحتُ عن بيتكم طوال هذه السنين- أكثرَ مما يرجوه ذلك الكلب من العائلة النجيبة. هذا تشبيهٌ بليغٌ وتصويرٌ حسنٌ، وهو استعطافٌ وأيّ استعطاف؟ استدرارٌ لعطف رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولعطف أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما تقول أنت حين تخاطبهم إنّه ليس لي عمل ولكني أرجو كرمكم، والذي في الخطبة جَرْيٌ على هذا النسق؛ فإنَّ الذي في الخطبة أنه (حفظه الله) يقولُ أنا أستعطف الإمام المهدي (عجل الله فرجه) بالإمام الحسين (عليه السلام)، وحينما أستعطفه فإني أصنعُ ما يصنع التابع لمتبوعه، أقلّ التابعين ليس لأشرف المتبوعين، للمتبوعين العاديين من الناس، أقلّ التابعين الكلب الذي يتبع القافلة، أليس له طمعٌ في القافلة؟ في أصحابه؟ هذا الكلبُ يرجو أصحابَه في القافلة. أفيكون هذا الكلب في رجائه أكثرَ ثِقةً بمتبوعه منّي؟
على الأقل (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا) .. على الأقل أَن يكونَ هذا الكلب في طمعه ورجائه سببًا في حياة ضميري، ألاّ ألتفت إلى نفسي. أنا لا أستحق ولكن الذي أطمعُ فيه أهلٌ لأنْ يجود، فَأنا أتعلّم من هذا التابع. هذا التابعُ له طمعٌ وثقةٌ بمن يتبعُه، أنا أيضًا فلأتعلّم منه ونحن أيضًا فلنتعلّم أن يكون لنا طمع في رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن يكون لنا طمع في أهل البيت (عليهم السلام) ليس لأنّنا أهلٌ بل لأنّ لنا ثقةً فيهم، ألا يطردوا أحدًا عن بابهم ومن ليس عنده هذا الطمع فإنه لا يعرفهم، من لا يعرف أهل هذا البيت هو الذي لا يطمع فيما عندهم وفي كرمهم.
تحقّق أركان التشبيه في عبارة الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظلّه الوارف):
ثم يقول: أنا الذي أُشَبّهُ طمعي وثقتي فيكم يا أهل البيت بطمعِ الكلب وثقته فيمن يتبعه ذلك الكلب، لا أنصفُ نفسي إن قلتُ إنّ ثقتي فيكم كثقة ذلك الكلب، فثقتنا أقلّ. لماذا؟ لأنَّ الكلب الذي يتبع صاحبَه يرميه صاحبُه بالحجارة مرةً بعد مرّة ومع ذلك ثقته في صاحبه لا تزول، وأنه إذا كان ردّني هذه المرة سوف يقبلني في المرة الثانية ويرميه صاحبُه بالحجارة مرةً ثانية ولا يتركه بل يتبعه ثقةً منه في كرمه. ونحنُ يا رسول الله ويا أهل بيت رسول الله، نتبعكم ولم تصل إلينا منكم حجارة، لم يصل إلينا منكم إلا الجودُ والكرم فنِعْمَ الموالي أنتم! إذا وثقنا بكم فكيف نقول إن ثقتنا بكم كثقة الكلب بصاحبه وثقة الكلب بصاحبه قد بقيتْ بعد أن طرده صاحبُه، وثقتنا بكم لم تتعرَّض لهذا الاختبار؟! إذا طردتمونا وبقينا تابعين لكم حينها يحقّ لنا أن نقول إن ثقتنا بكم وطمعنا فيكم كثقة بصاحبه وطمعه فيه، أما ولم نتعرَّض لذلك الاختبار فإنه ليس من الإنصاف أن نَصِفَ أن نفسنا بذلك.
هذا وجه التشبيه. يقولون إن التشبيه له أركان:
1- المُشَبَّه.
2- المُشَبَّه به.
3- جهة التشبيه ووجه.
4- الغرض منه.
هنا، المُشَبَّه: ثقتنا بأهل البيت، المُشَبَّه به: ثقة الكلب بصاحبه، جهة التشبيه: أنّ الكلب لا يتَركُ صاحبه وإنْ طَرده وإن كان الكلب ليس أهلاً لأن يُكرِمَه لأن صاحبَه لا ينتفع به إلا أنّ طمعه فيه يُنِيلُه الفضل من صاحبه. الغرض من التشبيه: هو الاستعطاف، استدرار عطف أهل البيت (عليهم السلام). ماذا في هذا؟ أركان التشبيه كلها تامّة وصحيحة.
التشبيهُ بالحيوان لا يستلزمُ التنقيص بالضرورة:
قد تقول: إنّ تشبيه الإنسان بالحيوان فيه تنقيصٌ من الإنسان، والله (سبحانه) قد كرّم الإنسان. والجواب: إنّ تشبيه الإنسان بالحيوان إنما يكون تنقيصًا إذا كانت جهة المشابهة مشتملةً على تنقيص، وأمّا إذا كانت جهة المشابهة مشتملةً على مزيّةٍ أو على جهةٍ ليس فيها تنقيص بل تُوجِب استدرار العطف والرحمة فمجرّد تشبيه الإنسان بالحيوان لا يوجِب تنقيصًا، والقرآن الكريم مشتملٌ على تشبيه الإنسان بالحيوان (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)([4]) ، من هو الذي له جناح؟ الطائر، فهل هو إنسان أم حيوان؟ حيوان. (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) رسول الله (صلى الله عليه وآله) له جناح الرحمة للمؤمنين، ويوجد جناح آخر (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)([5])، هنا جناح الذلّ (وَاخْفِضْ) يعني المؤمن أم الكافر؟ المؤمن. (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ) الذي له جناح هو الطائر وهو من الحيوانات. (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ)[6] الذين يفرّون من التذكرة. من الذي يذكّر؟ رسول الله (صلى الله عليه وآله). (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قسورة أي الأسد. رسول الله (صلى الله عليه وآله) كُنَّيَ عنه بالأسد أو استُعير له القسورة، والقسورة من الإنسان أم من الحيوان؟ فإذًا تشبيه الإنسان بالحيوان ليس فيه إخراج للإنسان عن دائرة الكرامة إلّا إذا كانت جهة التشبيه مشتملةً على التنقيص. الحمزةُ أسدُ الله وأسد رسوله([7])، الأسد من البشر أم من الحيوان؟ هل قولك عن الحمزة أسد الله هذا مخالفٌ لقول الله تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)؟ في الرواية: (المهدي طاووس أهل الجنة)([8]) الطاووس من البشر أم من الحيوان؟
السائل: قد يدّعي البعض أن هذه الأمثلة في عرف الناس دالةٌ على المدح.
الشيخ علي الجزيري: واحدة واحدة، الآن نَخْلُصُ إلى الضابطة، لأنَّه لابدّ من التأصيل ببيان الضابطة.
الإمام الحسين (عليه السلام) فرخ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورد ذلك في عدة روايات: (أنا فرخك وابن فرخك)([9]) وفي رواية الملَك: (يقتلون فرخك)([10]). الفرخ هو ولد -بتعبير متسامَح فيه- الدجاجة. الدجاجة من البشر؟ إذًا وَصْفُ أحدٍ من البشر بصفةٍ لحيوان أو تشبيهه بحيوان، لا يُوجِب نقصًا ولا إخراجًا عن الكرامة. التشبيه يُلاحَظ فيه جهة التشبيه ما هي؟ إذا كنتَ تقول فلان كالأسد وتقصد الرائحة السيئة، يقولون للأسد بَخر الفم([11])، ويقصدون من البَخر رائحة سيئة تنبعث من فمه. أنا لا أدري، لكن هذا في الكتب القديمة. الأسدُ له لُبدة كثيرة الشعر، افرض أنّ أخاك الصغير يُطيل شعره بشكلٍ لا تستحبّه فتقول له اذهب واحلق شعرك كأنّك أسد، تريد أن تعيبَ هذا الشعر المنفوش. هذا التوصيفُ يمكن أن يُقال إنه منافٍ للكرامة، (يمكن)، لا أحكم على هذا، أقولُ لو قال أحدٌ ذلك في هذا التوصيف فله محلٌّ. أمّا أن تقول فلانٌ أسدٌ وتقصد في جهة التشبيه إقدام الأسد فهذا ليس فيه حطٌّ ولا ينافي الكرامة.
التشبيه المذموم:
قد يُقال: التشبيه منه تشبيهٌ حسنٌ ومنه تشبيهٌ مذموم، والتشبيه المذموم عدُّوا منه قول الأعرابي([12]) الذي جاء إلى بغداد وأُمِرَ أن يمدحَ حاكمها، فقال:
أنت كالكلب في حفاظك للود *** وكالتيس في قراع الخطوبِ
قالوا هذا تشبيهٌ مذمومٌ لأنه تشبيهٌ يراد به المدح ولكنه يُوحي بالذم. هذا التشبيه المذموم، هل يدخل فيه تشبيه الإنسان نفسه أو تشبيه طَمَعِهِ بِطَمع الكلب ؛ لأنه يفيد الذم؟ الجواب: هذا ليس من ذاك، لأنَّ التشبيه الذي قاله الأعرابي تشبيهٌ لغيره، وهنا سماحة الشيخ يتكلَّمُ عن نفسه، هَبْ أنّه مثلاً يحطّ من قدر نفسه؟ هذا كسرٌ للنفس في مقام التذلّل لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وإذا كان في مقام التذلّل لأهل البيت فيحسن به أن يكسر نفسه. كيف تأتي إلى أهل البيت (صلوات الله عليهم) وأنت تعرف قدرهم؟ تارةً يأتي إليهم شخص لا يعرف من هم هؤلاء، ينظر إلى قوله تعالى (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ)([13]) ويكتفي ولا يكمل الآية (يُوحَىٰ إِلَيَّ)، جانب (يُوحَىٰ إِلَيَّ) الذي فيه المَزِيَّة لا يَذكُره ولا يعتقده في قلبه. يُوجد أناس لا يعتقدون ذلك في قلوبهم، والذي يعتقدونه في قلوبهم أنّ رسول الله -صلى الله عليه وآله- (بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ). من كان يعرف قدرهم ويعتقدُ بما يمتازون به ويؤمن أنّهم سادته ومعنى سيادتهم له أنّه عبدٌ لهم، هذا معنى السيادة. يُوجد من الناس من يرضى –ربما- أن يقال له سيّد ولكن نفسه لا تطيبُ أن يُقال لأمير المؤمنين أنه سيد، وربما يُوجد من الناس من يرضى أن يُقال له يا مولاي، ولكنَّ نفسه لا تطيب أن يُقال لأمير المؤمنين يا مولاي، مع أنّه يعرف أن الذي يقول له يا مولاي يقول له أنا عبدك.
أَدبُ الشيخ الوحيد مع أهل البيت (عليهم السلام):
نحن نتحدث عن سماحة الشيخ. سماحة الشيخ عارفٌ قاصدٌ، يعرف سيادتهم وأنهم مواليه ويقصد ذلك، إذًا لابدّ أن يكسرَ لهم جناح الذلّ من الرحمة. إذا كان هذا هو الأدب القرآني مع أَبَوَيْك، القرآن الكريم بمقتضى هذه الآية لا يقول لك أنت حيوان أمام أَبَوَيْك، بل كأنه يقول لك أنت حيوان صغير -الطير حيوان صغير-، أنت حيوان صغير ذليل، ترضى بهذا؟ لا ترضى خصمك القرآن. (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)، الشيخ الوحيد (حفظه الله) نجزمُ أنّه يعتقد أنّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ولأهل بيته (عليهم السلام) أضعافاً مضاعفة مما لأبويه عليه من الحقّ. ربّما يُوجد في الناس من لا يعتقد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا الحق، يقول (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) أنت بشر وأنا بشر، وأنا لا أذلّ نفسي لأحد. لأحد! رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنده أحد! سماحة الشيخ -ونجزم أن جميع المؤمنين على هذا الحال- يعتقدُ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليس (أحد)! يعتقدُ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشرٌ مثلنا، (و) يُوحى إليه، يمتاز بهذه المزيّة، وإن كان يُخفض لأبويه جناح الذلّ من الرحمة مرةً، فإنّه (حفظه الله) نجزم أنه يخفض لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ولأهل بيته (عليهم السلام) جناح الذلّ من الرحمة ألف مرةٍ([14]). سماحة الشيخ يخفض لأمير المؤمنين ولسائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) جناح الذل من الرحمة أضعاف ما يخفضه لأبويه. هذا أدب القرآن، من يعجبه أدب القرآن فهنيئًا له، ومن لا يعجبه أدب القرآن فلينتهج أيّ أدبٍ يحبّه.
السائل: قد يقول البعض إن في الروايات أن الله (سبحانه) لم يَكِلْ للمؤمن إهانة نفسه، وهذا التشبيه من إهانة النفس.
الشيخ علي الجزيري: بهذا البيان الذي ذكرنا؟ جهة التوصيف هي طمع الكلب بصاحبه وثقته به. جهة التشبيه، هذه ليست مُذِلَّةً كما قلنا. ربّما يُفهم أنه حيث كان الحامل للصفة هو الكلب والكلب في عرف العرب يوصَف به الإنسان في مقام الشتم، ربما من هذا الوجه يتحسّس العربي من هذا الوصف، أمّا في غير هذه الثقافة لا توجد أيّ حزازة. على أنه هناك قلنا (قد)، قد يتحسّس بعض الناس، حيث أنهم يعتبرون الكلب للشتم، لكن من تُبَيَّن له جهة التشبيه لا ينبغي أن يقصرَ تركيزَه على تحسّسه من اسم الكلب، بل ينبغي أن ينظر إلى جهة التشبيه.
السائل: يدّعي البعض أن هذا التشبيه هو الذي يدعو بعض المؤمنين عند بعض العتبات المقدسة إلى بعض الممارسات.
الشيخ علي الجزيري: كلا، فتلك كانت موجودة قبل أن تنتشر كلمة الشيخ (حفظه الله) بل هي موجودة في ثقافات ربّما لم يبلغهم قول الشيخ، تلك لا صلة لها بهذه. على أي حال، هذا التوصيف مبنيٌّ على نكتةٍ بلاغيّةٍ بيّناها، وأما ذاك فعملٌ يحتاج إما أن يكون العامل مجتهدًا أو يقلّد مع مراعاة الضوابط الشرعية للتقليد الصحيح، فإذا أجازه الفقيه الأعلم بحسب ما انتهى إليه بحثه فحجّته أمام الله (سبحانه) ترخيص الفقيه الأعلم وأما إذا لم يُجِزْهُ الفقيه الأعلم وهو من تلقاء نفسه عمل هذا فإنه يُحاسَب على هذا لأنه عمل من غير حجة، (والفقيه يفتي بملاحظة كل الخصوصيات التي في زمان مقلِّديه ومكانهم مع أخذ جميع الجهات والحيثيات بالاعتبار).
[1] مقتطفات ولائية، للمرجع الشيخ الوحيد الخراساني دام ظله الوارف (ترجمة عبّاس بن نخي)، ص 30 ، طبعة دار المحجّة البيضاء، الطبعة الأولى، عام 2002م.
[2] سورة الإسراء: الآية 70
[3] كلامُ الشيخ الجزيري حفظه الله هنا ناظرٌ إلى تَسنِّم الشيخ الوحيد الخراساني دام ظلّهُ الوارف لزعامة الحوزة حتى في حياة المرجع السيّد الكلبيكاني أعلى الله مقامه (ت 1414 هــ)، مثلما كان السيّد الخوئي رحمهُ الله يُسمّى زعيم الحوزة في حياة السيّد محسن الحكيم رحمه الله، ويقالُ أنّ السيّد الحكيم رحمهُ الله هو من لقّبهُ بهذا اللقب، واللقبُ ناظرٌ إلى صاحب الدرس العام الأكثر طُلّابا، فإذا شرعَ في الدرس دبّت الحياة في الحوزة وإذا عطّل سادها الهدوء.
[4] سورة الحجر: الآية 88
[5] سورة الإسراء: الآية 24
[6] سورة المدّثر: الآية 50
[7] عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: على قائمة العرش مكتوب: "حمزة أسد الله وأسد رسوله وسيد الشهداء"الكافي للشيخ الكليني ج ١ ص ٢٢٤
[8] غاية المرام للسيد هاشم البحراني ج ٧ ص ٩٧
[9] كتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي ج ٥ ص ١٨، الفصول المهمة في معرفة الأئمة لابن الصباغ ج ٢ ص ٧٨٤، شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي ج ١١ ص٤٠١.
[10] مدينة المعاجز للسيّد هاشم البحراني ج ٣ ص ٤٣٩، العوالم ، الإمام الحسين (ع) للشيخ عبد الله البحراني ص ٥٩٩
[11] البخر الفموي (بالإنجليزية: Halitosis)، أو رائحة الفم الكريهة، رائحة النفس، النفس الكريه، أو كما هو شائع النفس السيئ؛ جميعها مصطلحات تصف الرائحة غير المستحبة المنبعثة خلال التنفس بغض النظر إن كان الفم هو مصدرها الأصلي أم لا. (موسوعة ويكيبيديا)
[12] تنسبُ هذه الأبيات لعلي بن الجهم (ت 249 هـ) وقد قالها في مدح المتوكل العبّاسي.
[13] سورة الكهف: الآية 110
[14] الشيخ الجزيري حفظه الله:
(إيرادُ الألف هنا على سبيل المبالغة وليس المقصود النسبة ففي اللغة العربية يقولون سبعين عندهم آخر الأعداد، وأحيانًا يقولون الألف آخر الأعداد، ومنه قالوا في المليون بالترقيم الحديث: ألف ألف، عندهم آخر رقم هو الألف. نحن لا يعنينا هذا، نحن ننظر إلى الرقم للكناية).