حديث السفينة
تقرير مقدمة درس ليلة السبت 6 شعبان 1437هـ رجب 1437هـ/ 13 / 5 / 2016م
الشيخ علي الجزيري (دامت بركاته):
أَعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة وأزكى التسليم على أشرف الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.
روى إمامُ أهلِ السنّة في علم الحديث المشهور بلقبه "الحاكم النيسابوري" في مستدركه على الصحيحين بسنده عن عَنْ حَنَشٍ الْكِنَانِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ ، يَقُولُ : وَهُوَ آخِذٌ بِبَابِ الْكَعْبَةِ : أَيُّهَا النَّاسُ ، مَنْ عَرَفَنِي فَأَنَا مَنْ عَرَفْتُمْ ، وَمَنْ أَنْكَرَنِي فَأَنَا أَبُو ذَرٍّ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : "مَثَلُ أَهْلِ بَيْتِي مَثَلُ سَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا ، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ" [1].
قال الحاكم النيسابوري "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ".
قرائنُ مهمة في فهم الحديث:
في هذا الحديث دلالةٌ على إمامة أهل البيت عليهم السلام، ولكنّ دلالة هذا الحديث تحتاجُ إلى توضيحٍ [لأنّ] في الحديث قرائن شتّى [ و ] ينبغي للقارئ الفطن أن يَتنبهَ إليها.
- لا موضعَ للمشاغبة: أبوذر رضوان الله تعالى عليه إستشهد في زمان عثمان، [ و ] لم يدرك الحُروب التي خاضها أمير المؤمنين عليه السلام في زمان ثني الوسادة له بالمقدار الذي حصل، وفي هذا خصوصيةٌ في دلالة هذا الحديث فإنّه رُبما شاغب مشاغبٌ على بعض أحاديث فضائل عليٍ عليه السلام بأنها قيلت لنصرته في حروبه التي فُرضت عليه وأمّا هذا الحديث الذي يرويه أبوذر رضوان الله تعالى عليه فلا موضع لهذه المشاغبة فيه
- المكان: أبوذر لم ينقل هذا الحديث لرجلٍ واحدٍ تَكلم له بهذا الحديث بينه وبينه، [ بل ] إختار موضعاً خاصاً لبيان هذا الحديث[ وهو ] أفضل موضعٍ في (أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) [2]. [وقد] إختار أن يُبيِّن هذا الحديث في البيت الحرام عند الكعبة المشرفة، عند باب الكعبة، هذا من حيث المكان.
- الزمان: وأمّا من حيث الزمان فإنّ أباذر لم يكن في زمان عثمان ولا قبله - بعد أن هاجرَ مع رسول الله صلى الله عليه وآله- مِن سَكنةِ مكّة، وإذا كان ذلك كذلك فَمِن وجودِ أبي ذر في البيت الحرام يُعلم أنّ أباذر قد إختارَ لتبليغ هذا الحديث زماناً خاصاً وهو زمانُ الحج أو زمان العمرة، فهاتان خصوصيتان لهما أعظمُ الأثرِ في بيان دلالة هذا الحديث: خصوصية الزمان وخصوصية المكان.
- الكيفية: وفي الحديث أيضاً خصوصيةٌ ثالثةٌ دخيلةٌ في بيان دلالة الحديث وهي كيفية بيان أبي ذر لهذا الحديث. [ فـــــ] أبوذر لم يكتفي بالزمان الخاص ولم يكتفي بالمكان الخاص بل أضاف إليهما خصوصيةً ثالثةً وهي خصوصية كيفية التبليغ [حيثُ] "أخذ بباب الكعبة"! وهل إكتفى رضي الله عنه بذلك في بيان أهمية ما سيبينه من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله؟! لم يكتفي بذلك بل إسترعى إنتباه السامعين واستجلب سَمعهم واستعار آذانهم، فقال: "أيها الناس" [ و] هذه الكلمة تُقال لاسترعاء الإنتباه [بمعنى] إذا كنت غير مصغٍ لي فأصغ من الآن! إنني أريد أن أحدثكم بحديثٍ له أهمية كبيرة "أيها الناس".
- الناقل: بعد أن استرعى انتباههم، أراد أن يُعرِّفهم وثاقة النقل، وكيف يكون تعريفة بوثاقة النقل؟! إنّما يكون ذلك ببيان صفته- إنّ الناقل لكم ناقلٌ أمين. إن الناقل لهذا الحديث مخبرٌ صادق، صادقٌ وأي صادق، فقال رحمهُ الله: "أيها الناس من عرفني فأنا من عرفتم"- أي في صدق لهجتي وأنه ما أظلت السماء ولا أقلت الغبراء بذي لهجةٍ أصدق من أبي ذر[3]- ومن أنكرني فأنا أبوذر- أي وكفى! من كان من أهل الإسلام ينبغي له أن يعرف صدق أبي ذر ومكانة أبي ذر وهو من السابقين الأولين، دخل في الإسلام طوعاً، جاء بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، لم يكن من سكان مكّة، وطلب منه أن يُخبره بخبره وأن يبيّن له ما عنده من البيّنات فلمّا بين له رسول الله صلى الله عليه وآله ما عنده صَدَّقَهُ وآَمنَ بِهِ.
إطلالةٌ على الحديث:
إذا كان هذا هو المكان وهذا هو الزمان وهذه كيفية البيان، وهذا واسطة النقل والبيان، فما هو الحديث الذي يسترعي كل هذه القرائن والمنبهات على أهميته؟! إنّه الحديث الذي فيه بيانُ رحمة رسول الله صلى الله عليه وآله بالمؤمنين (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [4]. حريصٌ عليكم في حياته في هذه النشأة وهو حريصٌ عليكم بعد رحلته إلى الرفيق الأعلى. لمّا كان بين ظهرانيكم حرصَ عليكم أشد الحرص في إصلاحكم وفي إنقاذكم من الضلالة، وبعد أَن يمضي إلى الرفيق الأَعلى بَّين لكم طريق نجاتكم. "مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق" أبوذر رحمه الله قال هذا الحديث في إمامة الإمام الأول من أهل البيت عليهم السلام، في زمان أمير المؤمنين عليه السلام -إمامته الفعلية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله بلا فصلٍ- ثُنيت له الوسادة أم لم تُثن له الوسادة. [و] أبوذر رحمه الله بيّن أنَّ عصمة هذه الأمة إلى يوم القيامة من الضلالة لا يكونُ إلّا بالأخذ بأهل البيت عليهم السلام والتمسك بهم لأنهم سفينة النجاة.
[1] المصدر: المستدرك على الصحيحين ( كِتَابُ التَّفْسِيرِ- تَفْسِيرُ سُورَةِ هُودٍ)
الرابط الإلكتروني: http://library.islamweb.net/hadith/display_hbook.php?bk_no=594&hid=3239&pid=312573
ولمن أراد التوسع فليراجع الجزء الرابع من كتاب "عبقات الانوار في إمامة الائمة الاطهار" للسيد حامد حسين النقوي اللكهنوي (ت 1306 هـ) بتحقيق السيد الميلاني:
http://dlia.ir/paygah.e.a/yasoob/books/htm1/m013/13/no1397.html
[2] (سورة آل عمران: الآية 96)
[3] أورد إبنُ أبي شيبة في كتابه المصنف (كتاب الفضائل- ما جاء في أبي ذر الغفاري) هذا الحديث من ثلاث طرق:
( 1 ) حدثنا عبد الله بن نمير عن الأعمش عن عثمان أبي اليقظان عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر .
( 2 ) حدثنا الحسن بن موسى قال ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن بلال بن أبي الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم قال : "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر" .
( 3 ) حدثنا يزيد عن أبي أمية بن يعلى الثقفي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم : "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر ، ومن سره أن ينظر إلى تواضع عيسى ابن مريم فلينظر إلى أبي ذر".
الرابط الإلكتروني: http://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?idfrom=4738&idto=4738&bk_no=10&ID=4422
[4] سورة التوبة: الآية 128