لماذا لم يدافع أمير المؤمنين (عليه السلام) عن سيدة النساء (عليها السلام)؟
تقرير: أ. عيسى البجحان
الرابط بصيغة PDF
الجواب هو تقريرٌ ــ بتصرفٍ ـ مدمجٌ لجواب العلامة الشيخ علي الجزيري (حفظه الله تعالى) لسؤالين تمّ توجيههما لسماحته بتاريخ:28 صفر 1437 هـ، وتاريخ 21 جمادى الثانية 1437 هـ، ويمكن الرجوع إليهما على الرابطين التاليين:
المقطع الأول: https://youtu.be/Dg3W9JLN16U
والمقطع الثاني: https://youtu.be/Qhg58zG6RmM
وقد تفضّل سماحة الشيخ علي الجزيري حفظه الله فأثرى الجواب ببعض الإضافات القيّمة.
المنهج العقلائي:
يرجعُ هذا السؤال في الحقيقة إلى أنه: ليس لسكوت أمير المؤمنين عليه السلام ما يسوّغه، وأَنَّ الحميّة والعقل والدين يُحتِّمونَ عليه أن يُدافع عن سيدة النساء عليها السلام، وأَنَّ الدفاع عنها واجبٌ مطلقٌ، وإن لزم ما لزم.
وسواء أكان السائل شيعيّا أم سنيّا فهو يعتقد أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يُقصّر في أداء واجبه، وأنّه كان على الصواب؛ لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام عند الشيعة: إمامٌ معصوم، وعند السنة: إمامٌ هاد مهدي راشد.
وإنما الغرض من إثارة هذا السؤال هو نفي وقوع الهجوم على بيت سيدة النساء عليها السلام؛ بحجة أنّه لو كان الهجوم قد وقع لكان أمير المؤمنين عليه السلام قد قَصّر في أداء واجب الذبّ عنها عليهما السلام، وحاشاه أن يقصّر، فعلمنا بإمامة علي عليه السلام يوجب العلم بعدم هجوم القوم على بيته عليه السلام!
وهذا وإن كان سؤالًا في شكله وظاهره، إلّا أنّه بحسب روحه وجوهره استدلال لنفي الهجوم.
هذا الاستدلال مبني على مقدمةٍ، وهي: أنَّ وجوب دفع الهجوم وجوبٌ مطلقٌ، غير مشروطٍ.
وهذا الاستدلال لا يتمّ إلا بإثبات هذه المقدمة، والسائل (المستدل) مطالبٌ بإقامة الدليل عليها، وهو لم يفعل، وهذا المقدار كاف في رده.
وربّما استدل (السائل) على هذه المقدمة: بأنَّ القادر يدفع ما يكره.
وهذا الدليل مؤلف من مقدمتين:
الأولى: أنّ عليًا عليه السلام يكره هجوم القوم على بيته؛ لأنّه يحب زوجته، ويحب أطفاله، ويكره أن يروعوا.
الثانية: أنّه عليه السلام قادرٌ على دفع ذلك؛ لأنّه قويٌ في نفسه وفي بدنه.
فكأنّ السائل قدّر أنَّ محبّة أمير المؤمنين عليه السلام لسيدة نساء الجنة، تستدعي كراهيته لأيّ أذى يلحق بها، هذا من جانب.
ومن جانب آخر، فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام شجاعٌ قوي، لا يمنعه من دفع ما يكره من أذاها عليها السلام جبن في نفسه، ولا ضعف في بدنه.
فالمقتضي للدفاع موجود، والمانع مفقود، فهو حتمي الوجود.
والجواب عن هذا الاستدلال بالنقض والحل:
الجواب النقضي:
أما النقض فمن وجوهٍ:
أولاً: النقض بالله تعالى:
فإنّ الله سبحانه يكره المعاصي، وهو قادرٌ على منعها، ومع ذلك فقد ارتكب العاصون أنواع المعاصي، فقد استكبر إبليس، وامتنع عن السجود لآدم عليه السلام، وادعى النمرود أنّه الإله الذي يحيي ويميت، وقال فرعون: أنا ربكم الأعلى، وقَتلَ بنو إسرائيل أنبياء الله عليهم السلام، ومن الأنبياء الذين قتلوا: يحيى عليه السلام، وذهب موسى عليه السلام لميقات ربه، واستخلف هارون عليه السلام، فعبد قومه العجل، وعقر أشقى الأولين ناقة صالح عليه السلام، وحوصر رسول الله صلى الله عليه وآله في شعب أبي طالب عليه السلام ثلاث سنين، وألقت حمالة الحطب الشوك في طريقه، واتهم صلى الله عليه وآله بأنّه يهجر، وخرج مهاجرًا إلى المدينة، ودخل الغار، ولو أمر ملك الجبال لأطبق عليهم الأخشبين.
وكل ذلك يكرهه الله تعالى، وهو قادر على منعه، فلو كان القادر يمنع ما يكره، لمنع الله تعالى من وقوع هذه الذنوب العظام، بل الله تعالى أولى؛ لأنه أقدر، وأعلم.
ثانيًا: النقض برسول الله صلى الله عليه وآله:
فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وآله ما يكره، وهو قادرٌ على منعه، ومنه: أنّه رأى طغاة قريش يسومون أصحابه في مكة سوء العذاب، ورأى عمه الحمزة عليه السلام يُقتل ويمثّل به، ورأى خيار أصحابه يُقتلون في الحروب، ورأى بعض المنافقين والذين في قلوبهم مرض يدخلون بيته مستأنسين لحديث، وسمع مقالة بعضهم أنه سينكح بعض أزواجه من بعده، وبلغه حديث الإفك في بعض نسائه، وأبطأ عن الخروج إلى المسجد ليلةً، فرفعوا أصواتهم، وحصبوا الباب، وكان يعرف المنافقين، وهم يمكرون بالمؤمنين، وتنازع عنده أصحاب الحجرة وأفسدوا عليه ما أراده من كتابة كتاب يعصم الأمة عن الضلالة.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله قادراً على دفع ما يكره، ولم يدفعه.
وكفى بالله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وآله حجةً وبيانًا.
فيعلم من ذلك أنَّ القاعدة التي توهمها المستدل من أنّ: (القادر يدفع ما يكره) قاعدة باطلة، وإذا كانت هذه القاعدة باطلة، فكل ما بني عليها باطل مثلها.
فإنَّ القوم بعدما توهموا أنَّ القادر يدفع ما يكره، فرّعوا على ذلك: أنّ من لا يدفع ما يكره فهو عاجز، ولكي يستدرجوا أوهام الأغبياء، وضعوا بعض العبارات المؤثرة في نفوس السذج، ليخدعوا بها البسطاء الذين تنطلي عليهم الشبهات، فقالوا: (من لا يدفع ما يكره فهو جبان) وأنّ (من يدّعي أنَّ علياً عليه السلام لم يدفع عن سيدة النساء عليها السلام ما لقيت من الظلم فإنه يتهمه بأنّه: جبانٌ، يخاف من الذب عن عياله)!
وقد عرفت مما بيناه لك أنَّ كلماتهم هذه أوهام وتلبيسات، وأنّها مبنيةٌ على تخيل أنَّ: القادر يدفع ما يكره، واتضح لك أنَّ الصحيح هو إنّ: (القادر الحكيم قد لا يدفع ما يكره).
الجذور الفكرية التاريخية لهذه الشبهة:
ولهذه الشبهة جذور فكرية أشعرية، وهي التي دعتهم إلى القول بالجبر، وهو قول شنيع، وينتهي إلى: إبطال التكليف، وبطلان الثواب والعقاب، ونسبة الظلم إلى الله سبحانه.
بل نسبوا إليه تعالى جميع أفعال الكفار والعصاة، فكل ما يقع في العالم من ظلم وعدوان وقتل للنفوس البريئة وسرقة وغيرها فهو فعل الله عزَّ وجلَّ، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
ولعلّ مقالتهم هذه نشأت عن الجهل، لا عن سوء النية.
بل هي من تبعات بعدهم عن أهل البيت عليهم السلام، ونتيجة لعدم الاعتصام بهم.
فليتمس لهم العذر، بالجهل، بأنهم أرادوا الحفاظ على سلطان الله تعالى، وأنّه لا يقع في ملكه إلاَّ ما يريد، فنفوا عدله وحكمته.
والسؤال عن دفاع علي عن فاطمة عليهما السلام مبني على جذور هذه الشبهة الأشعريّة، وأنّ (القادر يدفع ما يكره)، لكنه سؤال أثاره من لا يوافقهم في القول بالجبر، غفلة عن رجوع هذا السؤال إلى تلك الشبهة الأشعرية الجبرية الباطلة.
وإذا عرفنا الجذور الفكرية التاريخية لهذا السؤال، وعرفنا أنه ينبني على قاعدة فاسدة، وأنّ القاعدة الصحيحة هي أنّ (القادر الحكيم قد لا يدفع ما يكره)، فيتبادر إلى الذهن سؤالٌ، وهو: متى يدفع القادر ما يكره؟ ومتى لا يدفعه؟
والجواب: إنّ ذلك مرتبط بالحكمة، فإن كانت الحكمة في الدفع دفع، وإن كانت الحكمة في عدم الدفع لم يدفع.
وعليه: فإذا ثبت في موردٍ وقوع ما يكرهه القادر الحكيم، علمنا أنَّ الحكمة اقتضت أن لا يدفعه، سواء علمنا وجه الحكمة في ذلك، أم لم نعلمه، وليس على الحكيم أن يُبيّن وجه فعله، ولا وجه عدم فعله لنا.
فتدبر قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30] ينكشف لك أنّه إذا كان القادر حكيمًا، فليس لك أن تعترض على أفعاله، ولا أن تعلّمه ما يأتي وما يذر، وما ينبغي أن يفعله، وما لا ينبغي.
وإذا سألته عن وجه فعله أو تركه: فإن كان الحكيم مولاك، فليس من حقك عليه أن يجيبك عن سؤالك.
بل، إن أجابك فذاك منه لطف وفضل، وإن لم يجبك فليس ضنا وبخلا، بل حكمة بالغة.
فهذا جواب هذا السؤال بصيغته التي تستدعيها جذوره التاريخية، ولكنّ هذا السؤال تطوّر على مرور الأيام، وصيغ بصياغات مختلفة، وتلون بألوانٍ متعددةٍ، تبعًا لثقافة السائل، وقد انعكس ذلك على الجواب عنه، فاختلف الجواب باختلاف ثقافة السائل، من باب: مخاطبة الناس على قدر عقولهم، ولأنّ الغرض من الجواب إقناع السائل بما يقبله من الحجة والبرهان.
وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه سُئل عن سبب سكوته عن حقه فأجاب: بسكوت أنبياء الله عليهم السلام عن حقهم في مواطن، وله في سكوتهم أسوة.
روى ذلك الشيخ الصدوق في علل الشرائع ([1])، والطبرسي في الاحتجاج ([2])، وابن شهراشوب في المناقب ([3]) وابن طاووس في الطرائف ([4]) مع اختلاف يسير.
وقد جمع الشيخ الكبير بين الروايات في كشف الغطاء فقال:
"وممّا رواه جماعة أهل الآثار: أنّ قوماً من الناس قالوا: ما بال علي عليه السلام لم ينازع أبا بكر وعمر وعثمان، كما حارب طلحة والزبير؟! فبلغ الخبر إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأمر أن يُنادى بالصلاة جامعةً.
فلمّا اجتمع الناس قام فيهم أمير المؤمنين عليه السلام خطيباً، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وذكر النبي صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم فصلَّى عليه، فقال: معاشر الناس، بلغني أنّ قوماً قالوا: ما بال علي عليه السلام لم ينازع أبا بكر وعمر وعثمان كما نازع طلحة والزبير، ألا وإنّ لي في سبعة من أنبياء اللَّه أُسوة:
أوّلهم: النبي نوح عليه السلام؛ إذ قال اللَّه تعالى مخبراً عنه ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾[سورة القمر: الآية 10]. فإن قلتم ما كان مغلوباً كفرتم وكذّبتم القرآن، وإن كان نوح مغلوباً، فعلي أعذر منه.
الثاني: إبراهيم عليه السلام؛ حيث يقول: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله﴾[سورة مريم: الآية 48]. فإن قلتم: إنّه اعتزلهم من غير مكروه كفرتم، وإن قلتم: أنّه رأى المكروه منهم فاعتزلهم، فأنا أعذر.
الثالث: لوط عليه السلام؛ إذ قال لقومه ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾[سورة هود: الآية 80]. فإن قلتم: إنّه كان له قوّة، فقد كفرتم وكذّبتم القرآن، وإن قلتم: إنّه لم يكن له بهم قوّة، فأنا أعذر منه.
الرابع: يوسف عليه السلام؛ إذ قال: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾[سورة يوسف: الآية 33]. فإن قلتم: إنّه دعا بغير مكروه وسخط، فقد كفرتم وكذّبتم القرآن، وإن قلتم: إنّه دعا لما أسخط اللَّه عزّ وجلّ فاختار السجن، فأنا أعذر منه.
الخامس: موسى بن عمران عليه السلام؛ إذ قال: ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾[ سورة الشعراء: الآية 21]. فإن قلتم: إنّه لم يفرّ منهم خوفاً على نفسه فقد كفرتم، وإن قلتم: إنّه فرّ خوفاً فالوصي أعذر منه.
السادس: هارون عليه السلام؛ إذ يقول: ﴿ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْداءَ﴾[سورة الأعراف: الآية 150]. فإن قلتم: إنّهم لم يستضعفوه ولا كادوا يقتلونه حيث نهاهم عن عبادة العجل فقد كفرتم، وإن قلتم: إنّهم استضعفوه وكادوا يقتلونه لقلَّة من يعينه، فالوصي أعذر منه.
السابع: محمّد صلَّى اللَّه عليه وآله؛ إذ هرب إلى الغار. فإن قلتم: إنّه هرب من غير خوف على نفسه من القتل، فقد كفرتم، وإن قلتم: إنّهم أخافوه فلم يسعه إلا الهرب إلى الغار، فالوصي أعذر منه.
فقال الناس بأجمعهم: صَدَقَ أمير المؤمنين عليه السلام"([5]).
وهذا جواب نقضي.
الجواب الحلي:
وأما الجواب الحلّي فهو ما أوضحناه، من أنّ (القادر يدفع ما يكره) قاعدةٌ فاسدةٌ، وأنّ القاعدة الصحيحة هي: (القادر الحكيم قد لا يدفع ما يكره).
قال العوني:
تقول لـِـم لـَـم يقاتلهم هناك - على |
حقٍ - ، لـيـَـــــــــــدفــعَ عنهُ الضيــمَ مُرهــَـفــُـهُ |
أم كيف أمْهـَـلَ (مـَـن لـَـو سلَّ صـــــــــــارِمـَـهُ |
في وجهه) لـــرأيتَ الطيرَ يخــطـفــُـهُ |
فقلتُ : (مـَـن ثبتـَـتْ في العقــــلِ حِكمـَـتُهُ) |
فلا اعتراض عـــــــليهِ حين تــُـنــْـصـِـفـُـهُ |
لـِـم عــَــمـّــرَ اللهُ إبــــــــــــــــــليـساً، وَسَــــلّـطــَـــــــهُ |
على ابنِ آدمَ في الآفــاتِ يـقــْـــذفـُـهُ |
لــِــم أمهـَـل اللهُ فرعونـــاً ، يقـــــــــــــولُ لهم: |
إني أنا اللهُ مـُـحيي الخلقِ مـُـتــْــــــــــلـِـفـُـهُ |
في مجلسٍ - لو أرادَ اللهُ - كان به |
- وبالأُلى نـَـصروهُ - كان يخـْـســِـــــــــــــفــُـهُ |
أملى لهم فــَـتــَـمادَوا في غـِــــــــــــــــــــــــوايتهـــِــم |
إنّ الغـــــــــــــــــويَّ كــَــذا الــدنــيـا تــُــســوِّفــُهُ |
وهل خـَـلا حـُـجةٌ للهِ - ويحكَ – مـِـنْ |
جـبـّـارِ سُوءٍ على البأساءِ يـَـعـْـطـِـفــُـهُ ([6]) |
وببيان آخر:
إننا لكي نعرف منهج العقلاء لا بُدّ لنا أن ننظر إلى مواقف متعددة لأناسٍ مختلفين، ومن ثم نعطي رأيًا في هذه المسألة.
ولنقف الآن على استعراض بعض هذه المواقف:
أولًا: النبي الأعظم صلى الله عليه وآله:
ابتلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإساءة البعض إلى شرفه ـــ مع غمض النظر الآن عمن هو المسيء ومن هي الــمُساء إليها، ففي ذلك رواياتٍ مختلفةٍ ([7]). وسؤالنا في المقام ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وآله أمام هذه الإساءة العظيمة التي شاعت وذاعت بين المسلمين، فهل خاض صلى الله عليه وآله وسلم حربًا ومواجهةً عسكريةً معهم؟
ثانيًا: النبي إبراهيم عليه السلام:
فقد روى كلٌ من البخاري ([8]) ومسلم ([9]) في صحيحهما تعرض السيدة سارة زوج نبي الله إبراهيم على نبينا وآله وعليه وآله السلام لمحاولة الاعتداء عليها من قبل أحد الجبابرة، فماذا صنع نبي الله إبراهيم عليه السلام أمام ذلك؟!
لنقرأ ذلك كما ورد عن صحيح مسلم نقلاً عن أبي هريرة:
"... فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ. وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ. فَقَالَ لها: إنّ هذا الجبار، إن يعلم أنك امرأتي، يغلبني عليك. فإن سأل فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي. فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ. فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ. فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَهُ رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الْجَبَّارِ. أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ إِلَّا لَكَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَأُتِيَ بِهَا. فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْه السَّلَام إِلَى الصَّلَاةِ. فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا. فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً. فَقَالَ لَهَا: ادْعِي اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي وَلَا أَضُرُّكِ. فَفَعَلَتْ. فَعَادَ. فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَةِ الْأُولَى. فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ. فَفَعَلَتْ. فَعَادَ. فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ. فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي. فَلَكِ اللَّهَ أَنْ لَا أَضُرَّكِ. فَفَعَلَتْ. وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ. وَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ. وَلَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ. فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي، وَأَعْطِهَا هَاجَرَ.
قَالَ: فَأَقْبَلَتْ تَمْشِي، فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام انْصَرَفَ. فَقَالَ لَهَا: مَهْيَمْ؟ قَالَتْ: خَيْرًا. كَفَّ اللَّهُ يَدَ الْفَاجِرِ. وَأَخْدَمَ خَادِمًا".
فهذا نبي الله إبراهيم عليه السلام لم يقم بمواجهة عسكرية، ولم يسلّ سيفًا لمقاتلة من حاول الاعتداء على زوجته سارة عليها السلام، بل تضرّع إلى الله تبارك وتعالى بالصلاة.
ثالثًا: عثمان بن عفان:
لقد أُسيء إلى عثمان بن عفّان عندما حوصر في داره من قبل الثائرين من المسلمين، فبعد اقتحام داره وكانت معه زوجته نائلة، ضُرب عثمان وتحدث بعضهم عن أجزاء من بدن زوجته، فما الذي كان منه في ذاك، هل واجهم وقاتلهم ودافع عن نفسه وعن زوجته؟! أم كان له موقفٌ آخر؟!
روى أحمد في مسنده بسندٍ صحيح قال:
"حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنْ أَبِي سَهْلَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ: "ادْعُوا لِي بَعضَ أَصْحَابِي"، قُلْتُ: أَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: "لَا". قُلْتُ: عُمَرُ؟ قَالَ: "لَا". قُلْتُ: ابْنُ عَمِّكَ عَلِيٌّ؟ قَالَ: "لَا". قَالَتْ: قُلْتُ: عُثْمَانُ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ: "تَنَحَّيْ". فَجَعَلَ يُسَارُّهُ، وَلَوْنُ عُثْمَانَ يَتَغَيَّرُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الدَّارِ وَحُصِرَ فِيهَا، قُلْنَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا تُقَاتِلُ؟ قَالَ: "لَا، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا، وَإِنِّي صَابِرٌ نَفْسِي عَلَيْهِ" ([10]).
ألم يكن الدفاع واجبًا على أمير المؤمنين عليه السلام؟
تقوم فكرة المعترض على افتراض مفاده: إنّ الدفاع عن المظلوم واجب إذا توفرت ثلاثة شروطٍ وهي:
أولًا: العلم بالظلم الواقع على المظلوم.
ثانيًا: محبة المظلوم.
ثالثًا: القدرة على دفع الظلم عن المظلوم.
فإذا اجتمعت هذه الشروط كان الدفاع واجبًا.
والمعترض يفترض أنّها قد اجتمعت في أمير المؤمنين عليه السلام يوم هجوم الدار، وذلك: لأنّه كان يعلم بما وقع على سيدة النساء عليها السلام، وهو يحبها عليها السلام، وهو قادرٌ على دفع الظلم عنها صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما، فصار الدفاع في حقه ضروريًا، فلماذا لم يدافع؟!
ونحن نجيب المعترض بالأمثلة التالية لتنقض هذا الافتراض، وندعوه للتأمل في تحقق هذه الشروط فيها:
المثال الأول: نبي الله يحيى عليه السلام:
إنَّ نبي الله يحيى على نبينا وآله وعليه السلام قتل، بل وأهدي رأسه لبغيٍ من بغايا بني إسرائيل، فنسأل المعترض:
أولًا: أكان الله تبارك وتعالى يعلم بوقوع الظلم على النبي يحيى عليه السلام، أم لا؟
ثانيًا: أكان الباري جلَّ وعزَّ يحب نبيه يحيى صلوات الله وسلامه عليه، أم لا؟
ثالثًا: أكان الله تبارك وتعالى قادرا على الدفاع عن نبيه يحيى عليه السلام، أم لا؟
وليس لمسلم أن ينفي علم الله تبارك وتعالى بما جرى على يحيى، ولا حبه له، ولا قدرته على دفعه.
فجميع تلك الشروط الثلاثة مجتمعة هنا، فهل دفع الله القوي العزيز جلت أسماؤه القتل عن نبيه يحيى عليه السلام، وحماه ممن قطع الرأس؟
إنّ الله سبحانه عالم قادر بما جرى على حبيبه، ولم يدفع عنه.
المثال الثاني: الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله:
النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وما جرى عليه في واقعة أحد، فقد روي أنه كسرت رباعيته وشج جبينه، وما وقع على شخصه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في مكة، إذ روي أن المشركين وضعوا سلى الجزور على ظهره، إلى غير ذلك من الجرأة عليه صلى الله عليه وآله.
وأمام هذه المواقف وغيرها في مسيرة نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم نقف مع المعترض في الافتراضات السالفة فنقول:
أولًا: أكان الله تبارك وتعالى يعلم بما جرى على نبينه صلى الله عليه وآله، أم لا؟
ثانيًا: أكان الباري عزَّ وجلَّ يحب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، أم لا؟
ثالثًا: أكان الله سبحانه وتعالى قادرا على الدفاع عن نبينا العظيم صلى الله عليه وآله وسلم، أم لا؟
والجواب - من غير شك -: إنَّ الله تعالى شأنه يعلم، ويحب نبيه صلى الله عليه وآله، وهو عزَّ وجلَّ قادرٌ عن الدفع عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
فلماذا لم يدفع عن نبيه صلى الله عليه وآله في هذه المواقف وغيرها، بل وقع كل ذلك وأشد منه على شخص وشخصية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
المثال الثالث: حادثة الإفك:
ما وقع على واحدة من أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث إنها لم تضرب بسوطٍ، ولم يدفع عليها بابٌ، ولم تلطم لها عينٌ ـــ كما وقع على الصديقة الشهيدة عليها السلام ــــ، بل وقع عليها ما دفعه أوجب، حيث اتهمت في عرضها، وهناك في الأمة من رماها بالإفك.
وأمام هذه الحادثة العظيمة نسأل المعترض:
أولًا: أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بما وقع أم لم يعلم؟
ثانيًا: أكان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله يحب عرضه أم لا يحبه؟
ثالثًا: أكان بمقدرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الدفاع عن عرضه أم لا؟
ولا شك عندنا ولا عند المعترض في أنّ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله كان يعلم بما جرى، وكان محبًا لعرضه، وقادرًا على دفع ما وقع فهو رئيس الدول الإسلامية، ومع ذلك لم يقتل أحدًا في هذه الحادثة.
الشرط الفاصل:
هذه كلها إجابات نقضية.
والجواب الحلي: أنّ المعترض ذكر شروطًا ثلاثة للدفع، وهي شروط صحيحة، ولكنها ليست كل الشروط اللازمة في حتمية الدفاع، بل ثمة شرط رابع، وهو: الحكمة، فمتى اقتضت الحكمة الدفاع وقع الدفاع.
أما إذا كان المحب المظلوم عالـمًا وقادرًا، ولكن الحكمة لا تقتضي الدفاع، بل تقتضي الصبر، أو الحلم وقع الحلم والصبر. ولو أنّ الحكمة كانت تقتضي دفع الظلم دائمًا لرفعت صفة الحلم عن الله تبارك وتعالى، ولأبطلت: الإملاء، والاستدراج، والإمهال، والكيد، ولخالفت ما ثبت في القرآن:
قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ﴾[ سورة الإسراء: الآيات 36 ــ 38].
وقال تعالى: ﴿وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾[ سورة الزمر: الآية 7].
وقال تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾[ سورة النحل: الآية 61].
وقال تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾[ سورة الزمر: الآية 7].
وقال تعالى: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾[سورة القلم: الآيتان 44 ــ 45].
وقال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾[سورة الحج، الآية 48].
ولذا نجد أن دفع الظلم لم يقع من الله تبارك وتعالى في دفع ما وقع على نبي الله يحيى عليه السلام، بل لم يدفع الباري سبحانه وتعالى القتل عن ريحانة وحبيب رسول الله صلى الله عليه وآله، بل هو حبيب الله تبارك وتعالى كما في روايات القوم؛ لأنه يوجد شرط لدفع المكروه في هذه المآسي، وهو (الحكمة) التي اقتضت أن لا يدفع القتل، ومتى ما اقتضت الحكمة الحلم والإمهال والمد والاستدراج والإملاء وجب ذلك.
الإنسان مجمع للخصال:
عندما ننظر للإنسان، فتارةً ننظر له على أنه قوةٌ غضبيةٌ فقط، فإذا أسيء إليه فينبغي عليه أن يرد، وتارةً أخرى ننظر له على أنه مجمعٌ لصفات الكمال، فتجتمع فيه عدة خصالٍ وليست خصلة الغضب وحدها، بل يضم خصلة الحكمة وخصلة التدين ومن اجتمعت فيه هذه الخصال فإنّ موقفه يختلف عمن كان صفته هي الغضب فقط.
الحكمة العلوية:
إنّ الحكمة هي الشرط الحقيقي والفاعل في مثل هذه المواقف، ومتى ما تمّ الإخلال بالحكمة فقد ضيعت المصلحة، وهذا ما وقع من أمير المؤمنين عليه السلام حيث ورد عنه أنّه قال لفاطمة الزهراء عليها السلام عندما بلغ المؤذن إلى قول: "أشهد أنّ محمدًا رسول الله، قال لها: أتحبين أن تزول هذه الدعوة من الدنيا؟ قالت: لا"([11])، فإنّ الفتنة ستقع في الدولة الإسلامية ويحصل بين أفرادها التنازع فتأكلها الأمم المحيطة بها والمجاور لها، حيث أنها تتربص بالإسلام والمسلمين الدوائر، فهل من المصلحة -والحال هذه- أن يدخل أمير المؤمنين في حربٍ؟ هل من مصلحة الإسلام والدولة الإسلامية أن يدخل أمير المؤمنين عليه السلام في مواجهةٍ لتقع الحرب الداخلية الأهلية بين المسلمين؟
إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله - وهو الأسوة والقدوة - لم يكن له ردات فعلٍ ناتجة عن غضبه، بل كان يُساء إليه صلى الله عليه وآله فيصبر حتى تنتهك حدود الله عزَّ وجلَّ فيغضب حتى يرى الغضب في وجه الشريف، فيعرف كل من رأه أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم غضب لتجاوز حدود الله تبارك وتعالى، فالإنسان الذي لا ينظر إلاّ لغضبه فقط ولا يحكمه إلا الغضب، فإنه يتصرف وفق ذلك الغضب، وأمّا إذا كان ينظر بمنظار الحكمة فهو لا بد أن يوازن الأمور فيرى أيها أصلح، يقول الشاعر المتنبي:
وَوَضْعُ النّدى في موْضعِ السّيفِ بالعلى مضرٌّ كوضْع السيفِ في موضع النّدى
الإيمان العلوي:
إذا جاءت وصيةٌ إلى أمير المؤمنين عليه السلام من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فماذا تراه يصنع؟ إنه إن كان متدينا فالذي يجب عليه أن ينقاد إلى أوامر الدّين، وأما إذا كان انفعاليًا يريد فقط أن يرضي غضبه فإنه يترك دينه، والدّين يقول: "ليس القوي بالصرعة وإنما القوي من يملك نفسه عند الغضب"([12]).
وصية النبي لأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما:
نقلت كتب القوم - فضلًا عن كتب الشيعة أعزهم الله تعالى - وصيّة رسول الله صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه بالصبر على ما يقع وعلى ما يجري عليه، ويمكننا أن نقسّم وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام بالصبر إلى قسمين:
القسم الأول: الوصايا الخاصة:
فقد روى القوم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لزم أمير المؤمنين عليه السلام وبكى، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: «ما يبكيك يا رسول الله؟» فقال: «أبكي لما يصيبك بعدي، إنّ أمتي ستغدر بك من بعدي» ([13]).
ورووا أيضًا: قوله صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام: «إِنَّ الْأُمَّةَ سَتَغْدِرُ بِكَ بَعْدِي، وَأَنْتَ تَعِيشُ عَلَى مِلَّتِي، وَتُقْتَلُ عَلَى سُنَّتِي، مَنْ أَحَبَّكَ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَكَ أَبْغَضَنِي، وَإِنَّ هَذِهِ سَتُخَضَّبُ مِنْ هَذَا» - يَعْنِي لِحْيَتَهُ مِنْ رَأْسِهِ"([14])
ورووا أيضاً: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام: «إنه سيكون بعدي اختلاف أو أمر، فإن استطعتَ أن تكون السَّلْم فافعل»([15]).
القسم الثاني: الوصايا العامة:
روى القوم في الكتاب المسمى بصحيح مسلم الرواية التالية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله:" تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ. وَإِنْ ضرب ظهرك. وأخذ مالك. فاسمع وأطع"([16]).
وقد علّق ابن تيمية على الحديث بقوله: "فَهَذَا أَمْرٌ بِالطَّاعَةِ مَعَ ظُلْمِ الْأَمِيرِ"([17]).
وهذه الرواية عرضت الدّين الذي يؤمن به أبناء العامة، فنقول لهم:
ألم يجر أمير المؤمنين عليه السلام وفق القواعد الدينية عندكم؟
أم تريدون منه صلوات الله وسلامه عليه أن يترك الدّين ويخالف شرع الله؟!
وهل تريدون من أمير المؤمنين عليه السلام أن يتصرف بغضبه ويترك قواعد الدّين؟
إنّ الخيار أمامكم.
فإن قلتم: بأنّ هذه الرواية ونظائرها هي من الدّين، فأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه جرى على وفق الدّين، وعليه فكيف يُعاب عليه ما جرى منه من موقف وافق الدّين فيه وذلك أنّه لم يغضب؟
ثم إننا نسألهم ونقول لهم: دعونا من روايتكم وروايتنا ــ لنفرض عدم وجود رواية ــ، فما هي الوظيفة الشرعية لرجلٍ يأتيه قومٌ من أهل القبلة وجماعةٌ كثيرةٌ فيقتحمون عليه الدار؟
فإنّ قلتم وظيفته الدفاع عن نفسه، فنقول: ذلك صحيح إذا كان يتمكن من الدفاع، وإذا نظرنا لحال أمير المؤمنين عليه السلام فإنّ عرضه الطاهر لم تنتهك، وما حدث هو اقتحامٌ القوم للدار من أجل أخذه عليه السلام ليبايع، وهو يعلم عليه السلام أنّ الغاية التي يقصدونها هي أن يأخذوه ، فواجبه هو أن يمتنع عن الذهاب معهم، وقد امتنع.
فكيف يعمد عليه السلام إلى قتالهم والقتال يستلزم إراقة الدماء، وهو يعلم أنهم لن يقتلوه إذا لم يقاتلهم؟!
فما قام به أمير المؤمنين عليه السلام هو أداء لوظيفته الشرعية.
فحرص أمير المؤمنين عليه السلام على الحفاظ على بيضة الإسلام وحفظ الدّين ــــ الذي هو هدف جميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ــــ، هو الذي بعثه على الصبر.
فضحى أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه حفظا للإسلام، ولنفس الهدف ضحى أولاده الطاهرون عليهم السلام، فهل نحسب سيدة نساء العالمين صلوات الله وسلامه عليها تخالف طريقة هؤلاء؟! هي أيضًا تتحمل وتصبر من أجل إعلاء كلمة الله عزَّ وجلَّ وحفاظًا للإسلام.
تهمة ابن تيمية:
لقد تجرأ ابن تيمية على الزهراء عليها السلام في تبريره لهذا الهجوم، حيث سعى لتسويغ هذا الهجوم، ووصفه بأنه هجوم شرعي ، بحجة أنه كان من أجل التفتيش؟!!!
يقول ابن تيمية في منهاج سنته:
"وَغَايَةُ مَا يُقَالُ: إِنَّهُ كَبَسَ الْبَيْتَ لِيَنْظُرَ هَلْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي يُقَسِّمُهُ، وَأَنْ يُعْطِيَهُ لِمُسْتَحِقِّهِ، ثُمَّ رَأَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ لَهُمْ لَجَازَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ"([18]).
وكأنّ فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها كانت متهمةٌ أنها تسرق ــ والعياذ بالله تعالى من هذا القول ــ من بيت المال، وكانت تخفي مال المسلمين في بيتها، فأراد الأول أن يتوثق من عدم وجود مالٍ للمسلمين فجاء برجاله فجأةً، وداهم البيت، ودخلوه على حين غرة، حتى لا تخفي الزهراء عليها السلام شيئًا من ذلك المال، ولو أنهم قالوا لها: إننا نريد تفتيش الدار وأعطوها فرصة ليوم أو يومين أو ساعة أو ساعتين فلربما أخفت ذلك المال، فلا بد أن يكبس ــ هكذا عبر ابن تيمية ـ الدار!!!
اعتذر ابن تيمية لفعل القوم، وسوغه بأنّ الفعل الصحيح هو (كبس البيت الشريف) حتى لا تخفي المال المخزون فيه.
ولا عجب منه في هذه التهمة لفاطمة الزهراء عليها السلام فإنها النتيجة الطبيعية لحال ومقال ومئال من ترك أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى:﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾[سورة الكهف: الآية 5].
-------------------
[1] علل الشرائع، أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي الصدوق رحمه الله، تعليق السيّد فضل الله الطباطبائي اليزدي، الطبعة الثانية المطبعة العلميّة، قم، ج 1 ص 199 (الباب [122] باب العلة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين (ع) مجاهدة أهل الخلاف) ح (7).
[2] الاحتجاج، أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي رحمه الله، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري والشيخ محمد هادي به، دار الأسوة للطباعة والنشر- إيران، ج 1 ص 446 (باب: احتجاجه (ع) في الاعتذار من قعوده عن قتال من تأمر عليه من الأولين وقيامه إلى قتال من بغي عليه من الناكثين والقاسطين والمارقين) ح (103).
[3] مناقب آل أبي طالب، أبو جعفر محمد بن علي بن شهراشوب، تحقيق وفهرسة: د. يوسف البقاعي، الطبعة الثانية: 1999م – 1412 ه، دار الأضواء، ج 1 ص 331.
[4] الطرائف في معرفة مذهب الطوائف، أبوالقاسم علي بن موسى بن طاوس، سنة الطبع: 1400 هـ، مطبعة الخيام، قم، ص 425.
[5] كشف الغطاء، الشيخ جعفر كاشف الغطاء رحمه الله، تحقيق مكتب الإعلام الإسلامي، مؤسسة بوستان كتاب - قم ج1 ص 80.
[6] مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج 1 ص 334.
[7] أضاف سماحة العلامة الجزيري (حفظه الله تبارك وتعالى) الفائدة التالية في المقام: ذكرت بعض الروايات أنّ المسيء هو حسن بن ثابت وحمنة بن جحش ومسطح بن أثاثة، والــمُساء إليها هي زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عائشة، بينما أشارت رواياتٌ أخرى إلى أنّ المسيء هي واحدة من زوجات رسول الله صلى الله عليه وآله والمساء إليها هي أم المؤمنين مارية القبطية رضي الله عنها، ونظريًا فعندما نسمع بجريمة فإننا نبحث عن الداعي وراءها، فما هي الدواعي والمصلحة في إساءة حسان وحمنة ومسطح إلى زوج النبي صلى الله عليه وآله عائشة، وما الذي بينهم وبينها، أما بالنسبة للسيدة مارية رضي الله عنها فإنّ الداعي أظهر وهو أنّها رُزقت بولدٍ من لدن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وغيرها لم يرزق.
[8] صحيح البخاري، أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة ابن بردزبه البخاري، تحقيق: جماعة من العلماء، الطبعة: السلطانية، صَوّرها بعنايته: د. محمد زهير الناصر، وطبعها الطبعة الأولى عام ١٤٢٢ هـ لدى دار طوق النجاة – بيروت، ج 3 ص 80، كتاب البيوع باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه، ح (2271).
[9] صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابورى،تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى : 1412هـ، 1991م، دار إحياء الكتب العربية، بيروت، ج 4 ص 1840، كتاب الفضائل، (41) باب من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، ح 6145.
[10] مسند أحمد، أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، الطبعة الأولى 1421 هـ- 2001م، مؤسسة الرسالة، ج 40 ص 297 ح (24253)، وقال المحقق في الحكم على الحديث وتخريجه:
"حديث صحيح. أبو سهلة وهو مولى عثمان بن عفان، ورقة العجلي، والحافظ في "التقريب" وذكره ابن حبان في "الثقات"، وصحح حديثه الترمذي والحاكم وابن حبان وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين. = وهو عند أحمد في "فضائل الصحابة" (٨٠٤).
وأخرجه عمر بن شبة في "تاريخ المدينة" ٣/١٠٧٠، وأبو يعلى (٤٨٠٥) عن موسى بن محمد بن حبان، والحاكم ٣/٩٩، والبيهقي في "الدلائل" ٦/٣٩١ من طريق عبد الرحمن بن منصور الحارثي، ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد القطان، بهذا الإسناد، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وأخرجه الترمذي (٣٧١١) عن سفيان بن وكيع، عن أبيه، ويحمل بن سعيد القطان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي سهلة، قال: قال عثمان يوم الدار: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قد عهد إليَّ عهدا فأنا صابر عليه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن أبي خالد.
وأخرجه الحميدي (٢٦٨) عن سفيان بن عيينه، وإسحاق بن راهوية (١٧٧٦) ، وابن أبي عاصم في "السنة" (١١٧٦) من طريق أبي معاوية محمد ابن حازم، كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد، به.
وقال سفيان: وحدثوني عن ابن أبي خالد، عن قيس، عن أبي سهلة، فقالت عائشة في هذا الحديث: فلم أحفظ من قوله إلا أن قال: "وإن سألوك أن تنخلع من قميص قمَّصك الله عز وجل، فلا تفعل".
وأخرجه ابن سعد ٣/٦٦-٦٧، وابن أبي شيبة ١٢/٤٤-٤٥، وابن أبي عاصم في "السنة" (١١٧٥) من طريق أبي أسامة حماد بن أسامة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي سهلة مولى عثمان، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه: "وددت أن عندي بعض أصحابي". فقالت عائشة فذكر الحديث".
[11] شرح نهج البلاغة، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله بن أبي الحديد ، تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم، مطبعة اسماعيليان، قم-إيران، ج 20 ص 326 ح (735).
[12] صحيح البخاري، مصدر سابق، ج 8 ص 28 [كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب]، ح (6114)
[13] مسند البزار أو البحر الزخار، أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق بن خلاد بن عبيد الله العتكي المعروف بالبزار، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، الطبعة الأولى: 1988م – 2009م، مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة، ج 2 ص 293 ح (716)
وكذلك: مسند أبي يعلى الموصلي، أبو يعلى أحمد بن علي بن المثُنى بن يحيى بن عيسى بن هلال التميمي الموصلي، تحقيق: حسين سليم أسد، الطبعة الأولى: 1404 هـ - 1984م، دار المأمون للتراث – دمشق، ج 1 ص 426 ح (565).
وأيضاً: تاريخ دمشق، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر ، تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي، طبعة: 1415 هـ - 1995م، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ج 42 ص 324.
وكذلك:المعجم الكبير، أبوالقاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، الطبعة الثانية، مكتبة ابن تيمية – القاهرة، ج 11 ص 73 ح (11084).
[14] المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، دراسة وتحقيق: مصطفى عب&