كيف نجمع بين فسحة الشرع في تطبيق قاعدة سوق المسلمين ثم يرتّب عليها آثاراً وضعية؟!
اليوتيوب: https://youtu.be/mki5Dwv8vXE
مقتبسٌ من الجلسة الحوارية بالمطيرفي ليلة السبت 23 ذي القعدة 1440 هـ- 26 يوليو 2019م
تقرير السؤال:
ربما أكثر شيء يصعّب الأمر ما جاء في بعض الروايات عن الإمام الباقر عليه السلام: «كُلْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ» [الكافي ج 6 ص 237 ح(2)]حيث يأمر الإمام عليه السلام بترك السؤال ويأمر بالأكل، وما في بعضها عنه عليه السلام: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْتَرِضُ السُّوقَ فَأَشْتَرِي بِهَا اللَّحْمَ وَالسَّمْنَ وَالْجُبُنَّ وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ كُلَّهُمْ يُسَمُّونَ هَذِهِ الْبَرْبَرُ وَهَذِهِ السُّودَانُ» [المحاسن ج 2 ص 495 ح(597)].
فكيف نجمع بين هذا وبين ما دلّ على أن للأطعمة المحرّمة آثاراً سلبيّة وأضرارا خفية؟
الجواب:
تارةً يكون الطعام المحرّم في الواقع -وإن كانت حرمته مجهولة وقد رخّص الشرع ظاهراً في أكله لأن حرمته الواقعية مجهولة- قد يكون الضرر ضررا بالغاً بحيث إنّ هذا الضرر يسبّب والعياذ بالله زيغاً في العقيدة، فهنا لا يسوغُ الترخيص في أكل هذا المجهول الحال.
وتارةً يكونُ الضرر ضرراً يسيراً بحيث إنّ عدمه أنفع لك، ولكن لو أكلته لم يلحق بك ذاك الضرر العظيم.
فهنا يوجد أمران.
وإذا أردنا أن نوضح المسألة نقول: لو وضعت نفسك في موضع المشرِّع، فستقول: إن رخّصت في أكله سيترتب على الترخيص منفعة عظيمة تعمّ الناس جميعاً، ولكن مع هذه المصلحة توجد مفسدةٌ يسيرةٌ تلحق بمن يأكل، فالترخيص ينفع الجميع: من أكل ومن لم يأكل، حيث إنّ تشريع حليّة الطعام تنفعُ حتى من لا يأكل منه، فإذاً تشريع حلية هذه الأطعمة ينفع الجميع، والأكل منها يحمي من لم يأكل من ضررٍ يسيرٍ، فماذا أصنع؟
لو أني أنا الذي أريد أن أضع القانون والتشريع، فيجب أولاً أن تضع الميزان أمامك، وتضع المصلحة المترتبة على الحليَّة في كفّة والمفسدة في الكفّة الأخرى. ونظيره أن تذهب إلى الطبيب وتسأله عن دواء معين فيقول لك: لابدّ أن ندرس منافع هذا الدواء وأضراره، ثم نقرّر إعطائك هذا الدواء أو لا.
فلابدّ من وضع الميزان أمامك، وتضع المصلحة والمفسدة وتقارن بينهما، ثم تضع التشريع الذي يتوافق مع هذا الميزان، فإن رجحَت كفّة الإباحة فتشرّع الإباحة، وإن رَجحت كفّة الحظر والتحريم تشرع التحريم.
ونستفيد من هذا من تشريع الحليّة أن هذه الحليّة - بحسب مصطلح علماء الأصول- حليّة اقتضائية، يعني حليّة تترتب مصلحة على تشريعها؛ لأنّ الحلية قسمان:
1. حلية لا اقتضائية: فمثلاً يضع المشرّع شرب الماء في الميزان، مصلحة شرب الماء، وضرر شرب الماء، ثم يقول: لا مصلحة ولا مفسدة، فإذا لا أشرّع الوجوب ولا أشرّع التحريم، وإذا لم يشرع لا الوجوب ولا التحريم - يعني لم يقل لك كل ولم يقل لك لا تأكل- فهذه إباحة لا اقتضائية لعدم وجود مصلحة في الفعل ولا مفسدة فيه.
وتوجد إباحة أخرى تسمى:
2. إباحة اقتضائية: حيث توجد مصلحة في أن تترك الحريّة للعبد، وعندما نجد بعض الأمور فيها مفسدة يسيرة ومع ذاك نرى الشرع قد أباحها، فنعلم أنّ هذه الإباحة إباحة اقتضائية، يعني توجد مصلحة في أن يُترك العبد بالخيار تجاه هذا الأمر وإن كان فيه مفسدة ولكن هذه المفسدة يسيرة بالقياس إلى مصلحة الإباحة، فإذا لا توجد مشكلة من الناحية العقلية العقل عالجها.
وقد جاء في القرآن الموازنة بين المنافع والمفاسد، حيث قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) حيث جعل المضرّة – فيهما إثم كبير – في كفّة، والمنافع في كفّة، ثم شُرِّع الحكم بالتحريم؛ لأنّه موافقٌ لنتيجة هذه الموازنة (وإثمهما أكبر) فشُرع تحريمهما.