العدل والنبوة العامة

موقع الشيخ علي الجزيري يرحب بكم

جاري تحميل المحتوى . . . الرجاء الانتظار

قائمة الاقسام

العدل والنبوة العامة

2018/02/25 596


تحميل

العدل والنبوة العامة

الملف بصيغة PDF

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة وأزكى التسليم على أشرف الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

العدل:

وصل الكلام إلى اعتقادنا في الله تبارك وتعالى أنه عادل، وقد عَدّت الإمامية الاعتقاد بعدلِ الله تبارك وتعالى أصلًا من أصول الدين. ومن الظاهر أنّه لا ينكر أحدٌ من المسلمين عدالة الله تعالى، ولا يقولُ أحدٌ من أهل القبلة بأنّ الله يظلم مثقال ذرة، فلماذا امتازت الإمامية بقولهم بأن الله عادل؟

والجواب عن ذلك: إن الاعتقاد بعدالة الله تعالى له تعبيران:

التعبير الأول: الاعتقاد بعدالته بحسب التصريح.

والتعبير الثاني: الاعتقاد بعدالته بحسب التطبيق.

وأهل القبلة لا يختلفون في التعبير الأول؛ فإنه لا يتجرأُ أحدٌ من المسلمين على التفوّه بأن الله ظالم، ولا على التشكيك في ذلك، ولكن جمهورًا كثيرًا من أهل القبلة ينسبون إلى الله تبارك وتعالى ما لا يليق بعدله، حيثُ نسب كثيرٌ من المسلمين أفعال العباد الصادرة عن إرادتهم واختيارهم إلى الله سبحانه، محتجيّن بأنّ الله قد قال في القرآن الكريم: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات:96] فنحنُ مخلوقون لله، وأعمالنا مخلوقة لله، وحيث إن الأخذ بظاهر هذه الآية بهذا المعنى، يستلزمُ إسناد القبائح -أي جميع الأفعال المذمومة الصادرة من الإنسان- إلى الله تبارك وتعالى، فلازم ذلك: أنّ الله إذ يعاقب العاصي على عصيانه، والطاغي على طغيانه، يكونُ ظالمًا له؛ لأن هذا الطاغي والعاصي لم يعصِ بإرادته واختياره، وإنما أُجبر على هذا العصيان، وأُلجأ إلى هذا الطغيان، فإذا عاقبهُ يكون ظالمًا له!

فالقولُ بالعدل إذن ناظرٌ إلى القول بأن أفعالَ العباد صادرةٌ عنهم بإرادتهم واختيارهم؛ لأن هذا هو الذي ينسجم مع القول بعدالة الله تعالى، وأمّا القول بإجبار العباد، فهذا يخالف الالتزام بعدالة الله. والقائلون بعدالة الله إذا التزموا بالجبر فإنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، حيث تقول ألسنتهم أن الله عادل، ولكنهم يعتقدون بعقيدة تنفي عدالة الله.

ولأهمية هذه المسألة من جانب، ولِقِدَمها من جانبٍ آخر، ولكون فرقة المجبرة قد ظهرت في زمانِ تبلور المذاهب وتأطرها، جُعلَ القول بالعدل أصلًا من أصول مذهبنا، وإلا فإن القول بتنزيه الله تبارك تعالى عن الجسمية وما يستلزم الجسمية، أيضًا من الأمور اللازمة، وكذلك القول بأن الله سبحانه وتعالى عالمٌ لا يبدو له شيءٌ كان خافيًا عنه، أيضًا من أصول مذهبنا. والفرقُ بين المسألتين أن المسألة الأولى: اللازم الباطل لازمٌ لقول مخالفينا، والمسألة الثانية: اللازم الباطل يُتوهم من عقيدتنا، فإن قولنا بالبداء يُتوهم منه أن الله لم يكن عالمًا بهذا الشيء ثم علم به، فلابد من التنبيه على أننا نعتقد بأن الله عالمٌ لدفع هذا التوهم الباطل، وأن البَداء الذي نقول به لا يستلزمُ إسناد الجهل إلى الله تعالى، وكذلك القول بحكمة الله تعالى، فإن كثيرًا من المخالفين يقولُ بأن أفعاله تعالى غير معللة بالغايات، وأن له أن يفعل ما يشاء، وأنه لا يجب عليه شيء، وهذا كله قولٌ مستلزم لنفي الحكمة عن أفعاله تبارك وتعالى، فلماذا لم يُجعل الاعتقاد بحكمته تبارك وتعالى أصلًا من أصول الدين. والجواب هو نفس الجواب عن السؤال السابق؛ فإن هذه المسألة لم تحدث في زمن الأئمة عليهم السلام، وإنما حدثت لاحقًا بعد تبلور المذاهب وتأطرها. وكيف كان، فلا يوجد دليلٌ على لزوم الاعتقاد بأن أفعال العباد صادرةٌ عن إرادتهم واختيارهم، وأن ذلك شرطٌ في قبول الطاعات، وأن ذلك شرطٌ في دخول الجنة، بخلاف القول بالإمامة كما نبهنا، وبخلاف القول بالتوحيد والنبوة. وإنما جُعل العدلُ أصلاً من أصول الدين، لأجل أن القائلين بالإمامة هم أهل العدل، أي أنهم القائلون بالعدل، ولذلك عُدَّ ذلك أصلاً من أصول الدين، وبهذا الاعتبار يمكن أن يُجعل القول بالحكمة أيضًا أصلاً من أصول الدين؛ لأن القائلين بالإمامة الواجدين لشرط قبول الطاعات، الواجدين لشرط دخول الجنة، هم القائلون بحكمة الله تعالى، وبهذا الاعتبار يمكن إدراك ذينك الأصلين أيضًا.

الأدلة على عدل الله تبارك وتعالى:

استدل المصنف حفظه الله على أن الله عادلٌ بأدلة متعددة، وجميعها أدلة عقلية، وهنا ينبغي أن نلتفت دائمًا إلى أن بعض المسائل لابُدّ من الاستدلال فيها بأدلة عقلية، مثل مسألة وجود الله تبارك وتعالى؛ لأن الاستدلال بالشرع عليها دوري، وأما عدل الله تبارك وتعالى فلا نحتاج إلى الاستدلال عليه بالأدلة العقلية، فالأدلة العقلية وافية بإثباته وهي كثيرة، ولكن يمكننا أيضًا أن نستدل بالأدلة الشرعية ولا يلزم الدور؛ لأننا أثبنا وجود الله، وأنه حكيمٌ، وأنه صادقٌ، وأرسل نبيًّا، وقامت المعجزة على صدق هذا النبي، وقد جاءنا هذا النبي بأن الله عادل، فهذا استدلال بالدليل الشرعي، وهو خالٍ عن محذور الدور، والأدلة القرآنية والروايات المتواترة، اليقينية سندًا ودلالةً على عدل الله تبارك تعالى كثيرة متضافرة بل متواترة، بل إن الله سبحانه قد استنكر التسوية بين المحسن والمسيء، مع إعطاء المحسن حقه، لو جُعل المسيء مثله لكان ذلك قبيحًا، فكيف بحرمان المحسن من حقه، هذا أولى بالقبح.

أما الأدلة العقلية التي ذكرها المصنف حفظه الله فمنها:

الأول: أن الظلم نقصٌ: ويكفي هذا، في إثبات المطلوب، لا حاجة إلى ما أضاف حفظه الله من أنّه لو كان تبارك وتعالى ظالمًا، لزم أن يكون متصفًا بالنقص، ولو اتصف بالنقص لزم أن يكون مركبًا من الكمال والنقص، والتركب منافٍ للوحدانية التي أثبتناها فيما سبق، مضافًا إلى أن التركب يستلزم الحاجة، والحاجة منافية للغنى، الذي أثبتناه سابقًا. لا نرى حاجة إلى تطويل الدليل هكذا، بل يكفي أن يُقال: لو كان ظالمًا لكان ناقصًا، والنقصانُ باطلٌ عليه، فالظلم أيضًا باطل ؛ لأن ما يستلزم الباطل فهو باطل.

الثاني: أن الإنسان يدرك بفطرته قبح الظلم وحسن العدل: وإذا كان الظلم قبيحًا بحكم العقل، فكما لا يليقُ الظلم بالإنسان، لا يليق بالله تبارك وتعالى.

الثالث: أن منشأ الظلم لا يخلو من ثلاثة أمور: إما الجهل بقبحه، أو بكونه ظلمًا، أو العجز عن تحصيل الغايات من دونه فيُضطر إلى الظلم، أو اللعب والعبث كما في بعض المجرمين الذين يقتلون من أجل اللعب، والله سبحانه منزهٌ عن هذه الأسباب، فإنه عالمٌ منزهٌ عن الجهل، وهو حكيمٌ منزّهٌ عن اللعب، كما إنه قادرٌ منزّهٌ عن الجهل.

ثم ذكر حفظه الله بعض الآيات المصرحة بعدل الله تبارك وتعالى، مثل: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ  لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران: 18] فهو القائم بالقسط أي العدل، ومثل قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد: 25]. فإذا كان الله قد أرسل الرسل بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، فكيف يبعث الرسل لأجل هذه الغاية (العدل)، ولا يكون عادلاً. ومثل قوله تعالى: (وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [يونس: 54] فإن هذه الآية تخبر بأنه يُقضي بينهم بالعدل. ومنها قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) [النحل: 90]، فكيف يأمر بالعدل، ولا يكون عادلاً؟!

وهذه الأدلة جميعها لا تمس الجانب الخلافي في مسألة العدل، والذي يمس الجانب الخلافي في مسألة العدل هو الراويات التي ذكرها أخيرًا وهو ما رُوي عن الصادق عليه السلام([1])، أنه سأله رجلٌ فقال له: إن أساس الدين التوحيد والعدل، و علمه كثير، ولا بد لعاقلٍ منه، فاذكر ما يسهل الوقوف عليه ويتهيأ حفظه ([2])، فقال عليه السلام: "أما التوحيد فأن لا تجوز على ربك ما جاز عليك([3])، وأما العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه([4])."

وقال لهشام بن الحكم([5]): "ألا أعطيك جملة في العدل والتوحيد؟، قال: بلى جُعلت فداك، قال: "من العدل ألا تتهمه" -وهذا أيضًا يمس المسألة الخلافية؛ لأنك إذا نسبت إلى الله ما يصدر منك من المعاصي ومن الكفر، فإنك تتهم الله سبحانه بأنه يفعل فيك هذه الأفعال؛ لأنك محل لهذه الأفعال، مثل طول الإنسان وقصره، ولون الإنسان، وكثافة شعره ونعومته، وأمثال ذلك من الصفات التي لا يد له فيها إثباتًا ولا نفيًا، فلا يعاقِبُ الله على هذه الصفة، لأنها ليست بيد الإنسان، فإذن كيف يعاقب على الأعمال وحال الأعمال عندكم -عند المخالفين- حال الأعمال حال هذه الصفة، هذا اتهام لله، "ومن التوحيد أن لا تتوهمه"، للرواية التي مرّت: "كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم"([6]).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "كلما استغفرت الله تعالى منه، فهو منك، وكل ما حمدت الله تعالى فهو منهُ"([7]). وليس المقصود بعبارة: "كل ما حمدت الله تعالى عليه فهو منه" أن الله هو فاعله دائما، بل إما أن يكون الله فاعله أو يكون الموفق له، فمثلًا: المال الكثير أو الذرية الصالحة من الله، ولكن هذا يكون برزق من الله وتفضل منه، فإنه يهب لمن يشاء إناثًا، ويهب لمن يشاء الذكور، ويجعل من يشاء عقيمًا، فالذرية من الله، وهي هبة من الله، وأمّا الأعمال الصالحة مثل: الصلاة والصيام والزكاة الجهاد وأمثال ذلك فمن الإنسان ولكنها بتوفيق من الله.

النبوة:

تارةً يكونُ الحديث في النبوة العامة، وأخرى في النبوة الخاصة، والحديث في النبوة العامة، ليس لأجل أن النبوة العامة من أصول الدين، فإن الذي هو من أصول الدين، أن تؤمن ببعثة الأنبياء، الذين ثبتت نبوتهم بالمعجزة عندك، أو بإخبار من ثبتت نبوتهم بالمعجزة، هذا هو الذي من أصول الدين، وأما الاعتقاد بأن حكمة الله تقتضي أن يبعث أنبياء، فهذا ليس من أصول الدين، فمن قَصُرَ عقله عن إدراك ذلك، فلا يكون خارجًا عن الدين. وإنما يُذكر بحث النبوة العامة تمهيدًا للحديث عن النبوة بصفة عامة أي عن صفات النبي بصفة عامة، وهذا هو الغرض من بحث النبوة، والحديث عن صفات النبي ارتبط ببعض الجهات المرتبطة بمسائل الخلاف مثل: العصمة.

والحديث عن النبوة العامة يتضمن جهات:

الجهة الأولى: بشرية النبي، وهذه الجهة أغفلها المصنف حفظه الله مع أنها أبرز الجهات التي دار حولها الجدل بين الأنبياء وبين من كذّبهم، قال تعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا) [الإسراء:94]. وكثيرٌ من الآيات القرآنية تبيّن هذا الجدل وتبيّن حجة المكذبين هذه وأنها حجة متكررة، لم تكن من قوم نبي بخصوصه، بل إنّ كثيرًا من الأنبياء كُذّبوا بهذه الحجة، فكان ينبغي أولاً أن تُذكر هذه الخصوصية للأنبياء: أي أنهم بشر، وتُدحض كما دحضَ القرآن الكريم حجّة أولئك في البحث العلمي، والذي يدحض حجتهم هو أن الله سبحانه وتعالى يصطفي من رسله من يشاء، فإن الله ذو الفضل العظيم، والمنّ الجسيم ولا رادّ لفضله، يريد أن يتفضل على من يشاء، لا راد لفضله، فإذا أراد أن يتفضل على بعض البشر بأن يصطفيهم وعلى بعض الملائكة بأن يصطفيهم، فإن ذلك له تبارك وتعالى، هذا من جانب.

ومن جانب آخر: إن الله سبحانه إنما أرسل أناسًا من البشر حتى لا يحتجّ البشر بأن هذه التكاليف يعجز عنها البشر، وإنما امتثلها هذا الرسول لأنه خارج عن البشر، فهو لا يواجه الصراعات التي يواجهها البشر، وليس فيه الغرائز التي فينا، لذلك تمكّن من امتثال هذه الأحكام، ولو كان فيه هذه الغرائز لما تمكن، فإذا بعث الله سبحانه وتعالى بشرًا رسولاً تمّت الحجة لله على الناس، وهذه سنة الله، وهذا أيضا ما أشار إليه القرآن الكريم، فإن الله سبحانه أشار إلى ذلك بالقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ) [النحل:43] فإذن هذه سنتنا. ما هي العلة وراء هذه السنة؟ لا نعلمها! نحن نتمكن من التخمين بما يتقضيه مناسبة الحكمة مع هذه السنة، ولسنا نعلم سرّ ذلك، هذا إذن في الجهة الأولى.

الجهة الثانية: ضرورة وجود النبي: والدليل على لزوم وجود النبي مركب من مقدمتين:

المقدمة الأولى: أنه لا بد للناس من هداية ربانية، والوجه في لابديّة الهداية الربانية ثلاثة أمور: ذكرها المصنف من غير تنظيم:

الأمر الأول: أن الإنسان خُلِقَ متصفًا بعدة صفات؛ منها قدرته على الحركة، ومنها قُدرته على التفكير وعلى تحصيل العلم، ومنها قدرته على النمو، ومقتضى الحكمة ألا يُعطى المخلوق صفة من الصفات إلا لأجل وصوله إلى غايةٍ تكون تلك الصفة آلةً للوصول لتلك الغاية، فأُعطي خصوصية النمو من أجل الوصول لغاية معينة مثل حصول القوة وأمثال ذلك، وأُعطي صفة القدرة على الحركة من أجل الوصول إلى غاية متناسبة مع القدرة على الحركة، وأُعطي صفة القدرة على التفكير واُعطي صفة الإرادة والاختيار من أجل أن يصل إلى الكمال لإرادته واختياره؛ لأن الحصول على الصفات المرغوبة من غير إرادة ولا اختيار ليس كمالاً، إنما الكمالُ إذا كان الوصول إليها بإرادة واختيار، فإذن إن الله سبحانه وتعالى منح الإنسان هذه القوة من أجل الكمال، واللهُ سبحانه يعلم أن الإنسان لا يتمكّن بقواه العقلية أن يميّز ما فيه صلاحه وما فيه فساده، بتمامه وكماله، ولا يستطيع أن يميز ما فيه صلاح المجتمع جميعًا، وما ليس كذلك، نعم يمكنه أن يميز حسن العدل، وقبح الظلم، وأما كثيرٌ من الأفعال، فلا يدرك الإنسان حسنها وقبحها بنفسه، لخفاء وجه الحسن والقبح فيها، فلا بُدّ من هدايةٍ ربانية تعلمه وجه الحسن والقبح في هذه الأفعال.

الأمر الثاني: هو أنّ الإنسان مُنح القدرة التكوينية، ومُنح العقل والاختيار، كما أنه مُنح مجموعةً من الغرائز، ولو أن هذه الغرائز طغت لصار الإنسان سببًا في سلب حريات الآخرين من بني البشر، واضطهادهم، فلا بدّ من هداية ربانية لتنظيم هذه القوى والغرائز، حتى لا تتحكم فيه غرائزه، ويستعمل قواه ونفوذه وإرادته في ظلم بني البشر.

الأمر الثالث: أن الإنسان قد سُلّط على الكون، (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) [الرحمن:33]، فلم يقل: (لا تستطيعون) بل قال: (لا تنفذون إلا بسلطان)، فمن يتمكّن من هذا السلطان، فإنه يتمكن من النفوذ في أقطار السموات والأرض فضلًا عن الأرض، فالإنسان مسلّطٌ على هذا الكون، فلو لم تُوجد هدايةٌ ربانية لصار الإنسان سببًا في فساد الكون، كما هو الحال كذلك في زماننا، حيث ثُقبت طبقة الأوزون، وتجد درجة الحرارة في زماننا في ارتفاع مستمر، فلا بد من الهداية الربانية، لإصلاح الكون بتمامه، هذه هي المقدمة الأولى، إذن لا بد من الهداية الربانية لهذه الأسباب الثلاثة.

المقدمة الثانية: أن البشر ليسوا جميعًا مؤهلين لتلقي الهداية الربانية بصورة مباشرة، فإن فرعون وهامان وجنودهما، وكثيراً من الطغاة، بل إن عامة البشر ليسوا أهلًا لتلقي الهداية الربانية مباشرة، وإنما يصير الإنسان أهلًا مع الاصطفاء الرباني، فلا بد من تناسبٍ بين المفيض والمفاض عليه، والمفروض أن الإفاضة هنا إفاضة للهداية الربانية، واللطف الخاص ليس كإفاضة اللطف العام، فلا يليق جميع البشر، يعني ليس جميع البشر أهلاً لتلقي الهداية الربانية، وهذه المقدمة لدفع توّهم مُقدّر، إذ قد يتوهم متوهم أن الإنسان إذا كان محتاجًا للهداية الربانية، فليفض الله تعالى الهداية الربانية على الجميع، وقد جاءت المقدمة الثانية لدفع هذا التوهم، ولا بد من إضافة مقدمة ثالثة، وهي الخصوصية الأولى التي ذكرناها في النبي، وهي البشرية، ولا بد أن يكون هذا الواسطة من البشر، هذه مقدمة ثالثة؛ لأن غير البشر لا يصلح أن يكون واسطة في إيصال الهداية الربانية والتعاليم الإلهية إلى البشر، بنحو تُقام عليهم الحجة.

هذا كله في الخصوصية الأولى، والخصوصية الثانية، ضرورة وجود النبي وبشرية النبي.

الخصوصية الثالثة: عصمة النبي، والحديث عن عصمة النبي تارة يكون بالحديث عن عصمة النبي بصفة عامة، وأخرى بعصمة بعض الأنبياء بخصوصهم كالخاتم صلى الله عليه وآله. أمّا الحديث عن عصمة الأنبياء بصورة عامة، فإنه يدلُّ على لزوم عصمة الأنبياء بصفة عامة: العقل والنقل.

أما العقل فلأن الأنبياء بحسب ما تقدم من الحديث واسطة في إيصال التعاليم الإلهية إلى البشر، فلو لم تكن هذه الواسطة مضمونةَ الإيصال، لم تحصل الغاية من جعلها واسطة، ولانتقض الغرض، فإذن لزوم حفظ الغرض يقتضي جعل الأنبياء معصومين، ودلالة هذا الدليل يمكن أن تقرر بوجوه، ذكر المصنف حفظه الله أدلةً، يمكن أن تجعلوها أدلة مستقلة، أو تقريرات متعددة لنفس هذا الدليل، على أي حال، ومن النقل آياتٌ كثيرة منها الآية التي أشرنا إليها، ومنها الآيات التي وصفت الأنبياء بأنهم مُخلَصون؛ فالاصطفاء-إن الله يصطفي- والإخلاص -أي إخلاصُ الله لأناسٍ معينين- مضافًا إلى ما جاء في حديث إبليس مع الله تبارك وتعالى، وحديث الله معه، (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص:83]، (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) [الحجر:42]، هذه الآيات تثبت أن لا سبيل للشيطان عليهم، ولكن هذه الأدلة النقلية، ناظرة إلى عصمة الأنبياء من الزيغ والانحراف السلوكي والخطأ والنسيان الحاصل بسبب الشيطان، وأما ما سوى ذلك فلابد من إقامة أدلةٍ أخرى عليه، وكيف كان، فإن الأخبار الواردة من طريق أهل البيت عليهم السلام، مع الآيات، إذا ضممنا جميع هذه الأدلة النقلية الناظرة إلى بيان مقامات الأنبياء بصفة عامة، نعلم علم اليقين من هذه الأدلة، أن مقامات هؤلاء الأنبياء فوق أن ينحرفوا في الاعتقاد، أو يرتكبوا الذنوب: كبيرة كانت أو صغيرة، بل إنهم فوق مستوى الخطأ والنسيان، وهذا هو أقوى الأدلة على عصمة الأنبياء عندنا، أي أن أقوى الأدلة هو مجموع الأدلة، خصوصًا الأدلة التي ذكرها علماء الكلام عندنا، من الأخبار الدالة على مقاماتهم عليهم السلام، فإن تلك المقامات فوق الخطأ والنسيان، وفوق الذنب والكفر طبعًا.

وأما الأدلة العقلية التي أشار إليها أو ذكرها المصنف حفظه الله فهي كما يلي:

الدليل الأول: أن الأنبياء بُعثوا لهداية الناس ولا يحصل ذلك إلا مع عصمتهم؛ لأنهم لو لم يكونوا معصومين فإنه يمكن أن يخطئوا أو يكذبوا في تبليغ الهداية الربانية إلى البشر، و أقصى ما يفيده هذا الدليل -كما تلاحظون- هو العصمة في التبليغ، وأما العصمة في غير التبليغ فلا.

الدليل الثاني: أنّ الله سبحانه قد جعل الدين ليَحيى الإنسان حياةً طيبةً، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً  وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97]، وماءُ الحياة الطيبة -بحسب تعبيراته حفظه الله- للإنسان هو الإيمان والعمل الصالح، وعينُ الحياة التي ينفجرُ منها هذا الماء وجود النبي، فلو كانت عين الحياة متلوثة لتلوّثَ الماء، ولو تلوّث الماء، لتلوّث الزرع كله، ولم يصلح هذا الماء لسقي عقول الناس وقلوبهم، ولا يحصل منه ثمرة الحياة الطيبة. وهذا الدليل تعبيرات لطيفة في تقرير الدليل الأول، ولا نرى فيه دليلاً جديدًا. على أي حال ربما يُتوهم أن هذا خاصٌ بالعصمةِ عن الذنوب، وأما الزيغ في العقيدة أو الخطأ والنسيان فكيف يكون معصومًا؟ والجواب عن ذلك: أنّ الزيغ في العقيدة أشدّ تلوثًا، وكذلك الخطأ والنسيان بوجوهٍ أخفى، فإن الخطأ تلوث، والنسيان تلوث، وإن كان ذلك قد يخفى على أي حال.

الدليل الثالث: أن الغرضَ من البعثة لا يحصلُ إلا بإطاعة النبي في أوامره ونواهيه، ولا يُمكن أن يُطاع العاصي؛ لأنه إذا بقي الفعل على حرمته مثلاً وأمرَ به النبي فكيف يُطاع النبي فيما أَمرَ به من المعصية؟ يلزم من ذلك التناقض في التشريع، وإذا لم يجب إطاعة النبي في هذا، فلا تجب إطاعته في غيره؛ لأنه لا يوجد ما يميّز بين هذا وذاك، ويكفي أننا لا نعلم أن الذي أمر به النبي هل هو واجب أو محرم إذا لم يكن معصومًا.

الدليل الرابع: هو أقوى الأدلة التي ذكرها المصنف حفظه الله، وهو الدليل القديم وقد ذكرناهُ في بحث العصمة، وهو أنه لولا العصمة لم يحصل الوثوق، وهذا يُثبت لزوم عصمة الأنبياء في أكثر من التبليغ؛ لأنه لو أخطأ النبي في أمر دنيوي، كأن يُخطئ في عدّ الأموال، أو في أمور ترتبط بالنبات أو غير ذلك، لم يحصل للأمة وثوقٌ بأخباره، فإن الخطأ وإن كان في أمرٍ لا يرتبط بتبليغ الدين، ولكنّ نفس وقوع الخطأ يزعزعُ الثقة بأخبار النبي. إلا أنّ هذا الدليل أيضا لا يثبت العصمة على نطاقها الواسع؛ لأنه إنما يثبت العصمة عن الخطأ أمام الناس وأمّا الخطأُ الذي لا يقع تحت طائلة دائرة عِلم الناس فلا محذور فيه؛ لأنه لا يزعزع الوثوق. فمثلًا افترض أنه جالس في بيته ويحسب الأموال التي حصدها مثلاً من زراعته وتجارته وغير ذلك، ويخطئ في حساب هذه الأموال، ولا أحد يطلّع على هذا الخطأ، فهذا لا يزعزع ثقة الناس به، فإن هذا الدليل على أنه أقوى الأدلة، إلا أنّه لا يثبتُ العصمة التي نقول بها في تلك السعة.

الدليل الخامس: أن منشأ الخطأ والذنب واحدٌ من أمرين: إما ضعف العقل أو ضعف الإرادة، والنبيّ لا ضعف في عقله؛ لأنه متصل بالوحي، ولا ضعف في إرادته؛ لأن إرادته تابعة لإرادة الله. وهذا أضعف الأدلة؛ لأنه مصادرة على المطلوب ذلك أن الذي ينكر العصمة يقول بأن إرادة النبي غير تابعةٍ لإرادة الله، فيمكن أن يغضب النبي فيسبّ من ليس أهلاً لأن يُسب، ويدعو على من ليس أهلاً أن يدعو عليه، ولذلك ورد في صحيح البخاري: "اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"([8]) وفي صحيح مسلم: "اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرًا"([9]). وهذا من أجل إصلاح: (لا أشبعَ الله بطنه) ([10]).

على أي حال، فإنّ الذين ينكرون العصمة يقولون بأن إرادته صلى الله عليه وآله وسلم أو إرادة جميع الأنبياء عليهم السلام ليست تابعةً لإرادة الله، فيمكن أن تكون تابعة، ويمكن ألا تكون، فإذا أقمت الدليل على أن إرادة الأنبياء تابعة لإرادة الله، فدليل العصمة هو ذلك الدليل لا هذا الدليل، فإذن هذا لا يصلحُ دليلاً وإنما هو مصادرة على المطلوب، أي هو استدلال بنفس المدعى. وكذلك بالنسبة للأمر الأول: أن يقول أن منشأ الخطأ والذنب إما ضعف العقل أو ضعف الإرادة، يقولون أن عقل النبي بشري، عقل بشري والعقل البشري يمكن أن يُخطئ، والجواب عن قولك أنه متصل بالوحي أن هذا الاتصال ليس دائميًا -يعني في جميع الأوقات والأزمنة- بل يراجعه الوحي، فيمكن أن يقع منه الخطأ ثم بعد ذلك يُصلح له مثل المدرس والطالب، الطالب يخطئ ويأتي المدرس ويصحح خطأه، فهذا الدليل غير وافٍ لإثبات العصمة.

والأفضل في الاستدلال على العصمة أن نقول: إن إجماع الطائفة المحقة على عصمة الأنبياء عصمةً مطلقةً بل إن هذا الإجماع يعرفه حتى المخالفون لنا ([11])، فيقولون قالت الإمامية بعصمة الأنبياء مطلقًا، وقال فلان بعصمتهم في التبليغ، وقال فلان بكذا وهكذا، فإذن هذا رأيٌ معروفٌ مشهورٌ عن الإمامية. هذا من ناحية الدليل الأول.

والدليل الثاني على العصمة هو الأخبار المتواترة المبينة لمقامات الأنبياء عليهم السلام، وأن لهم من المقامات ما لا تناله عقولنا، وأنهم فوق مستوى الملائكة، وغير ذلك من الأمور المرتبطة بمقاماتهم، ولا بُدّ للنبي من معجزة -والكلام في النبي بقول مطلق- لكي تثبت نبوته، فإنه لا يمكن قبول كل من يدعي النبوة، لا يمكن قبول دعوى كل من يدعي النبوة، وإلا وجب قبول دعوى كل من يدعي الربوبية أيضًا كفرعون، وإنما تُقابل الدعوى بالمطالبة بالبرهان: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)[البقرة:111]، فلا بد من إقامة الدليل والبرهان على النبوة، وهذا أمر بديهيٌ لا يحتاج إلى أن نستدلّ عليه.

والمعجزة هي فعلٌ خارق للعادة مقرون بدعوى النبوة، وأما إذا كان الفعل خارقًا للعادة ولم يكن مقرونًا بدعوى النبوة فهو كرامة، وخوارق العادات التي تجري على يد الأئمة والأولياء فإنها من الكرامات، وليست المعجزة -وهذه نقطة مهمة جدًّا في فهم المعجزة- بمعني وقوع الشيء من غير سبب، فليس وقوع المعجزة خرقًا لقانون السببية، فإنّ قانون السببية حاكمٌ لا استثناء فيه، لا يوجد معلول إلا وله علة، وإنما المعجزة حصول المعلول من علة غير متعارفة بين الناس، المعلول موجود وله علة، إلا أن هذه العلة ليست متعارفة مثل: شفاء الأبرص والأكمه على يد عيسى عليه السلام، فإن هذا الشفاء حاصلٌ بسبب خفيٍ غير معلومٍ للناس، وليس حاصلًا من غير سبب، وكذلك عدم إحراق النار لإبراهيم عليه السلام، فإنه لا يعني أن النار فقدت تأثيرها وخصوصيتها في الإحراق، بل يوجد حاجز، وهذا الحاجز غير متعارف، وربما يتطور العلم فيوجد نظير هذا الحاجز، لا أنه مثله بالمعنى الحقيقي، فهذا إعجازٌ.

ولا مانع ها هنا من أن يوجد شيء في المستقبل نظير المعجزة السابقة، فالمهم هو أن تكون المعجزة في زمانها معجزةً للمحيطين، وأمّا أن تكون معجزة إلى قيام الساعة فهذا لا دليل عليه؛ لأن حيثية دلالة المعجزة على صدق النبي هو أن هذا الرجل الذي يأتي بهذه الدعوى: (دعوى النبوة) مؤيد من قبل الله، وهذه المعجزة شاهد على التأييد من قبل الله، فلو أنه كان كاذبًا في هذه الدعوى فإنه يجب على الله -بمقتضى لطفه- أن لا يُظهر هذه المعجزة على يديه؛ لأنه لو أظهرها على يديه لكان هذا سببًا في إِضلال الناس، ولأجل هذا، فإنك لا تجد أحدًا من السحرة يكون مؤيدًا إذا ادعى النبوة، وإذا لم يدعِ النبوة يُترك الأمر له، يُظهرُ خلاف ما هو طبيعي عند الناس، الأمر متروكٌ له، يُمكّن من ذلك، وأما إذا ادعى النبوة فلا يُمكَّن؛ لأن تمكينه إضلالٌ للناس، والله سبحانه وتعالى أجل من أن يضلَّ الناس

ويمكن أن يكون مثلاً فيما سبق ساحرًا ويدعي النبوة، فإذا جاء لإثبات دعوى نبوته بالسحر لا يُظهر الله سحره أمام الناس؛ لأن هذا إضلالٌ للناس، وأمّا إذا لم يدع النبوة لم يكن ذلك إضلالاً للناس. ما الذي يدّعيه؟! هذا ليس إضلالًا للناس؛ لأن مجرد تمكّن الإنسان من أمور لا يتمكن منها سائر الناس أو كثيرٌ من الناس هذا لا يعني أن هذا مثلا له طريقٌ خاصٌ إلى الله سبحانه أو غير ذلك، يعني لا يستوجب إضلال الناس، المهم أن الشيء الذي يستوجب إضلال الناس يَقبحُ على الله أن يؤيده.

ثم ذكر المصنف حفظه الله روايتين في الأنبياء نقرأهما:

الأولى: عن الصادق عليه السلام أنه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبت الأنبياء والرسل؟ قال: "إنَّهُ لما أَثبتنا أَنّ لنا خالقًا صانعًا متعاليًا عنا، وعن جميعِ ما خَلَق، وكان ذلك الصانعُ حكيمًا متعاليًا، لم يَجِز أَنْ يُشَاهده خلقه، ولا يُلامسوه، فيُباشرهم ويُباشروه، ويُحاجّهم ويحاجّوه، ثَبتَ أَنّ لهُ سفراءَ في خلقه، يُعبّرونَ عنه إلى خلقهِ وعبادهِ، ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما بهِ بقاؤهم، وفى تركهِ فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه جل وعز، وهم الأنبياءُ عليهم السلام وصفوتُه من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين للناس -على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب-  في شئ من أحوالهم، مؤيدين  من عند الحكيم العليم بالحكمة، ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان مما أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين، لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته".([12])

الرواية الثانية: عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال: "فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ([13]) فَلِمَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةُ الرُّسُلِ وَ الْإِقْرَارُ بِهِمْ وَ الْإِذْعَانُ لَهُمْ بِالطَّاعَةِ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْ لَمْ يَكُنْ فِي خَلْقِهِمْ وَ قُوَاهُمْ مَا يُكْمِلُونَ بِهِ مَصَالِحَهُمْ وَ كَانَ الصَّانِعُ مُتَعَالِياً عَنْ أَنْ يُرَى، وَ كَانَ ضَعْفُهُمْ وَ عَجْزُهُمْ عَنْ إِدْرَاكِهِ ظَاهِراً، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ لَهُمْ مِنْ رَسُولٍ بَيْنَهُ وَ بَيْنَهُمْ، مَعْصُومٍ يُؤَدِّي إِلَيْهِمْ أَمْرَهُ وَ نَهْيَهُ، وَ أَدَبَهُ، وَ يَقِفُهُمْ عَلَى مَا يَكُونُ بِهِ اجْتِرَارُ مَنَافِعِهِمْ وَ مَضَارِّهِمْ"([14]).

هذا كله في النبوة العًامة، وأما النبوة الخاصة فيأتي الحديث فيها، والحمد لله رب العالمين.

------------------------

[1] التوحيد للصدوق رحمه الله، باب معنى التوحيد والعدل، ح (1).

[2] أي: اذكر لي شيئًا مفهومًا سهلاً ومقتضبًا أتمكن من حفظه.

[3] مثل التركيب والحاجة والحدوث، وأمثال ذلك.

[4] فمثلًا: ارتكاب المعاصي مما يلومُك اللهُ عليه، فلا تنسبه إلى خالقك، ودع قول هؤلاء الذين ينسبون الأفعال الذميمة التي تصدر منهم إلى الله تبارك وتعالى.

[5] بحار الأنوار- طبعة مؤسسةالوفاء، للعلامة المجلسي رحمه الله، ج 5  ص 58

[6] بحار الأنوار- طبعة مؤسسةالوفاء، للعلامة المجلسي رحمه الله، ج 69  ص 293

[7] الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف للسيد ابن طاووس رحمه الله، ص 330

[8] صحيح البخاري، كتاب الدعوات،  باب قول النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة .

[9] صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب باب من لعنه النبي صلى الله عليه[وآله]وسلم أو سبه أو دعا عليه.

[10] صحيح مسلم،كتاب البر والصلة والآداب، باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم، أو سبه، أو دعا عليه، وليس هو أهلاً لذلك، كان له زكاة وأجرًا ورحمة.

[11] من ذلك ما قاله الفخر الرازي في كتابه المحصول:

"اختلفت الأمة في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على قولين: أحدهما قول من ذهب إلى إنه لا يجوز أن يقع منهم ذنب صغيرا كان أو كبيرا لا عمدا ولا سهوا ولا من جهة التأويل وهو قول الشيعة، والآخر قول من ذهب إلى جوازه عليهم ثم اختلفوا فيما يجوز من ذلك وما لا يجوز".

المحصول للرازي، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606هـ) دراسة وتحقيق: الدكتور طه جابر فياض العلواني، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الثالثة: 1418 هـ - 1997 م، ج 3 ص 225، الكلام في الأفعال، المسألة الأولى في عصمة الأنبياء.

[12] الكافي- ط الاسلامية للشيخ الكليني رحمه الله، ج 1  ص 168، كتاب الحجة، باب الاضطرار إلى الحجة. ورواه الصدوق رحمه الله أيضًا في التوحيد (ط جماعة المدرسين)  ص 249. 

[13] أي الخصم

[14] عيون أخبار الرضا(ع) للشيخ الصدوق  رحمه الله، ج 2 ص 100 ، باب العلل التي ذكر الفضل بن شاذان في آخرها أنه سمعها من الرضا علي بن موسى(ع) مرة بعده مرة.


التالي السابق