طرق الوصول إلى الإيمان بالله
طُرق الوصول إلى الإيمان بالله
الملف بصيغة PDF
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة وأزكى التسليم على أشرف الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.
ذكر المصنفُ حفظه الله أنّ الطُرق إلى الله تبارك وتعالى متعدّدة، فللأولياء ولأهل الله تعالى طريقٌ للإيمان بالله ولغيرهم طرقٌ أخرى. أمّا بالنسبة للأولياء فالطريقُ إلى معرفة الله تبارك وتعالى في حقّهم الله سبحانه لأنّهم يعرفون الله بالله، وخصّصَ المصنفُ حفظه الله هذا الطريق بمن سمّاهم أهلَ الله، ويوجدُ في الروايات ما يدلُّ على أنّ هذا الطريق خاصٌ لفريقٍ معينٍ من الناس، وفي بعض الروايات ما يدل على عدم اختصاص هذا الطريق بالأولياء، وأنّه طريقٌ عامٌ لجميعِ الخلق، بل يظهر من بعض الروايات أنّ من عرف الله بغير الله فلم يعرف الله وإنما عرف غيره.
المقصود من معرفة الله بالله:
في المقصود بمعرفة الله بالله احتمالات:
الاحتمال الأول: أن يُراد أنّ الله هو الطريق والدليل على وجود نفسه، فنعرف وجوده بدلالةٍ منه تعالى.
الاحتمال الثاني: أنّ الله هو الهادي إلى وجوده، فنعرف الله بمخلوقاته وبالآثار الدالّة عليه، ولكن هدايته تبارك وتعالى هي التي تجعلنا ننتقل من الآثار إلى المؤثر.
الاحتمال الثالث: أنّ معرفةَ ذاته ومعرفةَ صفاته به تبارك وتعالى، بخلاف الاحتمالين الأولَيْن، فإن المعروف هناك هو وجوده؛ أمّا المعروف في الاحتمال الثالث فهو ذاته وصفاته لا أصل وجوده، فيكونُ تبارك وتعالى هو الدليل على معرفةِ ذاته بالمقدار الممكن للممكنات؛ لأنّ معرفة حقيقة الله ومعرفة كُنه الله بنحوٍ مطلقٍ متعذرةٌ على المخلوقين طُرًّا.
الاحتمال الرابع: أن يكون المقصود هو أنّ معرفة ذاته ومعرفة صفاته بهدايةٍ منه.
الاحتمال الخامس: أن يُراد معرفة وجوده وذاته وصفاته بدلالته.
الاحتمال السادس: أن يُراد معرفة وجوده وذاته وصفاته بهداية منه.
والروايات في معرفة الله بالله كثيرةٌ :
منها ما في دعاء عرفة: «أَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ، حَتّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ، مَتى غِبْتَ حَتّى تَحْتاجَ اِلى دَليل يَدُلُّ عَليْكَ، وَمَتى بَعُدْتَ حَتّى تَكُونَ الاْثارُ هِىَ الَّتى تُوصِلُ اِلَيْكَ»، وهذا المقطع من هذا الدعاء له دلالةٌ ظاهرةٌ جدًّا في المعنى الأول وهو أنّ الله هو الدليل على وجود نفسه.
وفي نفس الدعاء: «وِبَكَ أَسْتَدِلُّ عَلَيْكَ»، وهذا أيضاً كالنصّ إن لم يكن نصاً في المعنى الأول.
وفيه أيضاً: «أَنْتَ الَّذى اَشْرَقْتَ الأَنْوارَ فى قُلُوبِ أَوْلِيآئِكَ حَتّى عَرَفُوكَ وَوَحَّدوكَ» وهذا أيضاً ظاهرٌ جداً في المعنى الأول، ويحتمل المعنى الثاني أيضاً ؛ لأنّ الله تبارك وتعالى أشرق الأنوار في قلوب الأولياء، فمعرفَتُهم به بهدي منه وبإفاضة هذه الأنوار في قلوبهم، كما أنّ ظاهر الفقرة الأخيرة أنّ هذا النوع من المعرفة خاصٌّ بالأولياء، لا كل من عرفه.
وأما ظاهر الفقرات السابقة «أَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ، حَتّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ، مَتى غِبْتَ حَتّى تَحْتاجَ اِلى دَليل يَدُلُّ عَليْكَ، وَمَتى بَعُدْتَ حَتّى تَكُونَ الاْثارُ هِىَ الَّتى تُوصِلُ اِلَيْكَ» فهو أنّ الجميع يعرفون الله بالله.
كما أنّ ما رواه الكليني رحمه الله في الكافي عن منصور بن حازم قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني ناظرتُ قوماً، فقُلتُ لهم: إنّ الله جل جلاله أَجل وأعز وأكرم مِن أن يُعرف بخلقه، بل العباد يُعرفون بالله. فقال: رحمك الله».([1])
وفي الكافي أيضاً عن أبي عبدالله عليه السلام: «وإنّما عَرفَ الله من عَرفه بالله، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه، إنّما يعرف غيره» ([2])، وظاهر هذا الحديث أنّ هذا الطريق غير خاص بالأولياء بل بعموم الناس، ومثله ما في دعاء الصباح: «يا مَنْ دَلَّ عَلى ذاتِهِ بِذاتِهِ»
وفي دعاء زين العابدين عليه السلام: «بِكَ عَرَفْتُكَ وَأَنْتَ دَلَلْتَني عَلَيْكَ»، ويأتي في عبارة «بِكَ عَرَفْتُكَ» الاحتمالات الستة المتقدمة، وأما عبارة «وَأَنْتَ دَلَلْتَني عَلَيْكَ»، فإما المعنى الأول أو الثالث أو الخامس، أي أَنّ معرفته تعني: معرفة وجوده بدلالته، أو معرفة وجوده وصفاته وذاته بدلالته، أو معرفة الجميع بدلالته، وهذا الذي يُستفاد من عبارة «وَأَنْتَ دَلَلْتَني عَلَيْكَ».
وأما عبارة «بِكَ عَرَفْتُكَ» فتحتمل بلطفك وهدايتك وفضلك عرفتك، ولولا هدايتك لما تمكنت من الاستدلال على وجودك وعلى صفاتك بخلقك.
والبحثُ في معرفة الله بالله أوسعُ من هذا وإنما أردنا توضيح ما رمزَ له المصنّف حفظه الله بنحو الرمز والإشارة، وأمّا بالنسبة إلى غير الأولياء- إن قُلنا بأنّ الطرق الأخرى لغير الأولياء-فلا بُدّ أن يكون المقصود أولاً أنَّ هذه الطرق يشترك فيها الولي مع غيره، لا أن الطريق الأول خاصٌ بالأولياء فلا يشاركهم فيه غيرهم، وأنّ الطُرق الأخرى خاصةٌ بغير الأولياء فلا يشاركهم الأولياء فيها.
أمّا الطرق التي تتيسر لغير الأولياء، فَعدّ منها المصنف حفظه الله أربعة:
الطريق الأول: برهان السبر والتقسيم:
بأن ينظر الإنسان إلى وجوده، أو ينظر إلى أي شيءٍ من حوله، فيسأل من الذي أوجدني – إن كان ينظر إلى وجود نفسه- فيسبر المحتملات العقليّة:
إمّا أن أكون أوجدت نفسي أو أوجدني غيري، فإن كنت أوجدتُ نفسي، فإما أن أكون أوجدت نفسي وأنا موجود، أو أوجدت نفسي حيث لم أكن موجوداً، فينظر إلى هذه المحتملات، فيقومُ أولاً بسبر جميع المحتملات المعقولة، ثمّ يأتي إلى كل واحدٍ منها ويدرسه إن كان يُعقلُ أو لا، إلى أن يتعيّن محتملٌ واحدٌ هو النتيجة.
فإن قيل (إني أوجدتُ نفسي حين كنت موجوداً) فالجواب، هذا تحصيلٌ للحاصل، فإنّ الموجود لا يُعقل أن يُوجَد، وإن قيل (أوجدتُ نفسي حين كنت معدوماً) فهذا أيضاً باطلٌ لأن العدم لا فاعلٌ ولا منفعلٌ، ولا تأثير في الأعدام ولا أثر لها، فإنّ الوجود هو مسار الآثار، وإن قيل (أوجدني غيري)، فإمّا أن يكون هذا الغير مثلي أو مختلفاً عني، فإن قيل مثلي نقلت الكلام إليه، (من الذي أوجده؟ وهل أوجد نفسه حين وجودها أو حين عدمها؟ أو أوجدهُ غيره؟ وهل هذا الغير مثله أو ممختلفٌ عنه؟) فيأتي في الثلاثة ما ذكرناه في نفسه، وإن كان غيره مختلفاً عنه ثبت المطلوب وأنّ الخالق والموجد له غيره، وأنّ الغير مختلفٌ عنه والاختلافُ عنه يكون في الحاجة والغنى.
هذا هو برهان السبر والتقسيم وهو مذكور في صيغ مختلفة والمصنّفُ حفظه الله أشار إلى وجود هذا البرهان في كلمات الائمة عليهم السلام، ونقل روايات في هذا المعنى، وليس الغرض من نقل الروايات هو الاستدلال على وجود الله بهذه الروايات فإنّه باطلٌ لأنّه يستلزمُ الدور؛ فمن لا يؤمن بوجود الله لا يؤمن بالنبي، ومن لا يؤمن بالنبي لا يؤمن بالإمام، فكيف يُجعلُ كلام الإمام حجةً على من لا يؤمن بالله؟!
فالغرض إذن من ذكر هذه الروايات هو الاستئناس والإشارة إلى وجود هذه الأدلّة في كلمات الأئمة عليهم السلام، ولا حاجة مع ذلك إلى النظر في أسانيد هذه الروايات أو معرفة كونها متواترةً أو غير ذلك؛ لأنّك حتى لو سمعت هذا الكلام من نفس المعصوم فإنه لا حجيّة فيه لغير المؤمن بالنسبة إلى هذه المسألة.
وهذا البرهان مذكور في كلمات ابن سينا بنحو آخر([3])، حاصله أنّ العالم متغيرٌ وكل متغير حادثٌ وكل حادث محتاج إلى علّة، فهذه العلّةُ إما أن تكون ممكنة مثله، فيلزم الدور، أو واجبةً فيثبت المطلوب، فلا بُدّ لهذا الكون من خالقٍ يكونُ وجوده واجباً!
الطريق الثاني: برهان النظم:
وهذا البرهان برهانٌ يقيني الإنتاج فإنّ الإنسان لو بحث في منطقة أثريةٍ مثلاً فوجد كتابة على جدارٍ بطريقة ما، ولاحظ انتظام هذه الكتابة، فإنه لا يحتمل ولو بمقدار واحد في مئة مليار أن تكون هذه الكتابة قد وجدت صدفةً، بل يجزم أنّ حضارةً ما كانت موجودةً في هذه المنطقة وكانت تعرف الكتابة وأنّ هذه الكتابة من آثار تلك الحضارة، وهذا مشهودٌ في حياتكم اليوميّة، مع أنّ النظم الموجود في هذه الكتابة نظمٌ يسيرٌ، فهو عبارةٌ عن خطٌ أفقي وخطٌ عمودي وينتهي الأمر، فما بالك بالنظم الموجود في جسد الإنسان! قال تعالى: ﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: الآية 21 ].
ولو أنّ باحثاً قضى عمره كلّه في دراسة خصائص الشعرة لما تمكّن أن يستوفيها-من أين تأخذُ غذاءها وكيف تنمو وما هي خصائها وما هي فوائدها، وما هي الأحكام اللاحقةُ لها: أيها أفضل أن تُقطع أو تُترك، إلى غير ذلك من الأمور المرتبطة بدقائق الشعرة.
ولو أنّ باحثاً قضى عمره في دراسة خصوصيات بشرة الإنسان لما تمكّن -وإلى اليوم لم يستوعب العلماء مع أنهم يأتون ليبنون على ما انتهى إليه الآخرون ومع ذلك لم يتمكنوا من التبصّر في جميع خصوصيات بشرة الإنسان- ونحن نتحدث عن جُزء الجزء من الإنسان، ولا نتحدّثُ عن الإنسان بتمامه، وكذا الحالُ بالنسبة إلى النبات والحيوان، هذا والأعجب أنّ الإنسان مع ما يحوي من أسرار فإنّ خلق السماوات والأرض أعظم من خلق الإنسان([4])، أي أنّ ما يزيد عن إدراكنا أعظمُ ممّا يقع عليه إدراكنا من النَظْمِ الموجود، لا (يبدو أن "لا هنا زائدة) من كيفيّة هذا النَظْم وأسراره وأبعاده، فهل يُعقل أن يُوجد كلُّ هذا صدفةً، وأن لا يكون لهذا الكون المتقن مُدبرٌ عالمٌ حكيمٌ قادرٌ حيٌّ؟!
فهذا البرهان هو برهانٌ يورث اليقين ولعلّه – يعني هكذا يظهر من الآيات المتكثّرة- الإشارة إلى هذا البرهان، كقوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ* وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية: 17-20 ]، وهذا بحسب ما عندنا من العلوم، وإلّا لو كان الوصول إلى المعصوم ميسوراً وكان المعاصرون له بمستوًى يؤهلهم لتلقي المعارف الموجودة عنده فلا ندري أي أسرار وعلوم في مثل هذه الأدلة، ولكن بحسب إدراكنا نقول الظاهر من هذه الآيات الإشارة إلى برهان النظم، وقال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ﴾[الواقعة: 68-69 ].
وهذا كله إشارة على الظاهر إلى برهان النظم، والكلام في برهان النظم طويلٌ لأنّ الانسان كُلّما تدبّر في إتقان مخلوقات الله، أمكنه أن ينظر إلى كل واحدٍ من هذه المخلوقات فينسج منه برهان النظم.
البرهان الثالث: أن شرط تأثير المُمكن في إيجاد شيءٍ، غير قابلٍ للتحقّق:
وبعبارة أخرى، إنّنا إذا لاحظنا تأثير الطبيعة في أجزائها، وتأثير بعض المواد في بعض، نجدُ أنّ التأثير لا يكون إلّا مع وضعٍ خاصٍ بين المؤثر والمتأثر، ونسبةٍ خاصةٍ بينهما، فالنارُ مثلاً لا تؤثر في غليان الماء إلّا مع المماسة والاقتراب، والنورُ لا يؤثرُ فيما يقع عليه إلّا مع نسبةٍ خاصةٍ ومحاذاةٍ، وإلّا فلا يعقل التأثير.
وعلى هذا فالطبيعة والمواد الطبيعيّة لا يُعقل أن تكون مُوجدةٍ لشيءٍ من العدم، و يستحيلُ أن تخرج الطبيعةُ شيئاً من كتم العدم إلى حيّز الوجود؛ لأنّ شرط التأثير هو المحاذاة والوضع الخاص والنسبة المعينة، وهذا الشرطُ يستحيلُ توفره بالنسبة إلى العدم؛ لأنّ العدم لا نسبة بينه وبين شيءٍ، وليس بينه وبين الموجود وضعٌ خاصٌ، وبالتالي فالشرطُ مفقود، وإذا فُقِدَ الشرطُ فُقِدَ المشروط، فلا بُدّ أن يكون الـمُوجد لهذه الكائنات التي أخرجها من كتم العدم إلى حيّز الوجود له قدرةٌ تفوقُ قُدرة الطبيعة وقدرة المواد، وهو الله سبحانه وتعالى.
البرهان الرابع: الفطرة:
فإنّ الإنسان مفطورٌ على وجود الله تبارك وتعالى، وكما في الرواية ([5])«كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» ([6])
فهذه الفطرةُ الموجودةُ في نفس كل إنسان وهي التي أشار الإمام الصادق عليه السلام على ما في الرواية إليها، حيث نبّه أحد المؤمنين عليها بأن سألهُ لو كُنت في البحر وكنت راكباً سفينةً فتكسرت هذه السفينة، وأنت في عرض البحر، ولم يبقَ فيها شيءٌ تتعلق به لينجيك، هل يبقى شيءٌ في نفسك تتوجه إليه، وتعتقد أنّه قادرٌ على نجاتك؟ قال نعم، قال ذلك هو الله!([7])
فهذه فطرةٌ موجودةٌ في نفس كل إنسان، وكيف كان، فهذا البحث وإن كان بحثاً مهماً إلا أن النتيجة التي يتوخّاها الإنسان من هذا البحث لـمّا كانت موجودةً في نفس كل مَنْ لم يكن مُعانداً لوجدانه، وطاغياً متمرداً على فطرته، فإننا نكتفي بهذا المقدار، قال تعالى: ﴿ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ ﴾[إبراهيم: الآية 10 ]
دعونا نقرأُ بعض الروايات التي نقلها المصنفُ حفظه الله:
فقد نقل في بُرهان السبر والتقسيم وهو البرهان الأوّل روايةً عن الإمام الرضا عليه السلام أنه أنه دخل عليه رجلٌ فقال له: يا ابن رسول الله ما الدليل على حدث العالم؟ قال: «أنت لم تَكُن ثم كُنْت، وقد علمت أنّكَ لم تُكوّن نَفْسَك ولا كَوّنَك من هو مِثْلُك»([8]). وهذا برهان السبر والتقسيم باختصار.
وسأل أبوشاكر الديصاني الإمام الصادق عليه السلام: ما الدليل على أنّ لك صانعاً ؟ فأجابه الإمام (عليه السلام) : « وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين : إمّا أن أكون صنعتها أنا أو صنعها غيري، فإن كنت صنعتها فلا أخلو من أحد معنيين: إمّا أن أكونُ صنعتها وكانت موجودة، أو صنعتها وكانت معدومةً، فإن كُنتُ صنعتُها وكانت موجودةً فقد استغنت بوجودها عن صنعتها– بل إن صنعها محال لأنه تحصيل حاصل - وإن كانت معدومة فإنك تعلم أن المعدوم لا يُحدثُ شيئاً – لا عليّة في الأعدام، فالعدم لا علةٌ ولا معلول، ولا مؤثرٌ ولا متأثرٌ ولا فاعلٌ ولا منفعلٌ- فقد ثبت المعنى الثالث أنّ لي صانعاً وهو الله ربّ العالمين»([9])
وفي البرهان الثاني وهو بُرهان النظم، نقل روايةً عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه جاءه أبوشاكر الديصاني، -نفس السائل السابق- فقال له: يا جعفر بن محمد دُلّني على معبودي، فإذا غلامٌ صغيرٌ في كفّه بيضةٌ يلعبُ بها، فقال أبو عبدالله عليه السلام: «ناولني يا غلام البيضة» فناوله إيّاها، فأخذها منه ، وقال أبو عبد الله عليه السلام: « يا ديصاني هذا حصنٌ مكنونٌ، لهُ جلدٌ غليظٌ وتحت الجلدِ الغليظ جلدٌ رقيقٌ ، وتحت الجلدِ الرقيق ذهبةٌ مائعة وفضةٌ ذائبة فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة، ولا الفضّة الذائبة تختلطُ بالذهبة المائعة ، فهي على حالها لم يخرج منها خارجٌ مصلحٌ فيخبر عن صلاحها، ولا دخل فيها داخلٌ مفسدٌ فيُخبر عن فسادها، لا يُدرى للذكر خُلقت أم للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أتُرى لها مدبّراً ؟» فأطرق [الديصانيُّ]مليّا ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله ، وأنّك إمامٌ وحجّةٌ من الله على خلقه، وأنا تائبٌ مما كنت فيه([10]).
وفي برهان النظم أيضاً نقل رواية أخرى عن الإمام الرضا عليه السلام أنه دخل عليه رجلٌ من الزنادقة وعنده جماعةٌ فقال له أبو الحسن عليه السلام: «أيها الرجل، أرأيت إن كان القول قولكم - وليس هو كما تقولون - ألسنا وإياكم شرعاً سواء – لا نحن متضررين ولا أنتم إن لم يكن الله موجوداً-، ولا يضرّنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا؟» فسكت [الرجلُ]، ثم قال أبو الحسن (عليه السلام): «وإن يكن القولُ قولنا - وهو كما نقول - ألستم قد هلكتم ونجونا؟!» فالإنسانُ بالفطرة، والأمرُ يدورُ عنده بين التعيين والتخيير، فإمّا أن يكون كلا الطريقين منجيين، إذا كان القول قول الزنادقة أو يكون طريقنا هو المنجي دون طريقهم إن كان القول قولنا، فطريقنا طريقٌ نضمن فيه النجاة على القولين، وأمّا طريقهم فلا يضمنون النجاة.
فقال الرجل: رحمك الله، أوجدني كيف هو وأين هو؟
فقال: «ويلك إن الذي ذهبتَ إليه غلطٌ» فهذان السؤالان يتوجهان إذا كان الله مثلنا يحتاج الى كيف وإلى أينٍ-، «هو أيّن الأين» يعني هو الذي خلقَ المكان، فكيف يحتاجُ إلى المكان «و كان ولا أين»، كان الله ولم يكن المكان موجوداً، فأين كان قبل أن يوجد المكان؟ فإذن ليس اللهُ موجوداً في مكانٍ ومظروفاً لمحلٍ ومؤيناً بأينٍ - بلا أين «وهو كيّف الكيف» – فكيف يتصفُ بالكيف والكيف مخلوقٌ له وهو الذي كيّفه، و«كان ولا كيف»، فلو كان مُحتاجاً إلى الكيف، فكيف كان قبل الكيف-، «فلا يُعرف بكيفوفيةٍ ولا بأينونيةٍ» – وهذا لعلّه من ضيق اللغة العربيّة لأنها لم تكن لغةَ منطقٍ ومعقولٍ- «ولا يُدركُ بحاسة ولا يُقاس بشيءٍ». فقال الرجل: فإذن إنّه لا شيء!([11]) –أي أنّ الله إذا لم يُدرك بحاسة من الحواس!- فقال أبو الحسن عليه السلام: «ويلك ([12]) لـمّا عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته! ونحن إذا عَجِزَت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنّهُ ربنا، خلاف الأشياء».
بيان ذلك أنّ الذي جعلتَ منهُ دليلاً على عدمه، هو أقوى دليلٍ على وجوده، فعدمُ إدراك حواسنا له هو الدليل على وجوده، لا الدليل على عدم وجوده، ولو كان مُدركاً بحواسنا لكنّا نحيط به علماً، ولكانت تحيط به الأنظار والأبصار، وهو لا تدركه الأبصار وهو يدركها، فكونه لا تحيط به حواسنا دليلٌ على وجوده بوجودٍ مختلف عن وجودنا، بوجود فوق وجودنا، وإلّا إذا كان موجوداً بوجود مساوٍ لوجودنا، فبأي شيء يصيرُ ربنا ونصير عبيداً ، وأين القدرة التي تمكّنت من إخراجنا من كتم العدم إلى حيّز الوجود، وقد قُلنا أنّ الطبيعة لا يؤثّر بعضها في بعض إلّا مع نسبةٍ، لا يخرج الشيء من كتم العدم إلى حيز الوجود، شيء من أشياء الطبيعة لأنّ شيئاً من أشياء الطبيعة ليست له نسبة إلى المعدوم، فلا بُدّ أن يكون للخالق قدرةٌ غير قدرة أجزاء الطبيعة.
قال الرجل: فأخبرني متى كان؟ قال أبو الحسن عليه السلام: «أخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان»، -فلم يوجد زمانٌ من الأزمنة، ولم يكن الله موجوداً ولكنّ الله كان ولم يكن الزمان موجوداً- قال الرجل: فما الدليل عليه؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: «إني لما نظرت إلى جسدي ولم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول، ودفع المكاره عنه، وجرّ المنفعة إليه، علمتُ أنّ لهذا البنيان بانياً، فأقررتُ به، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته، وإنشاء السحاب، وتصريف الرياح، ومجرى الشمس والقمر والنجوم، وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات علمتُ أنّ لهذا مُقدّراً ومنشئاً».
في عصرنا هذا توجد علوم مختصة بدراسة هذه الأشياء، وفي بعضها يوجد أكثر من علم لدراسة هذه الأشياء، وفوق كل هذا: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾[الإسراء: 85]. بل إنّ هذه الآية تشمل حتى رسول الله صلى الله عليه وآله، مع كل العلوم التي عنده، ومع ذلك وما أوتي من العلم إلا قليلاً، فما هي سعة علم الله جلّت عظمته تبارك وتعالى؟!
أمّا الطريق الرابع: الفطرة فقد نقل المصنف حفظه الله روايةً عن الامام الصادق عليه السلام أنّه قال له رجلٌ: يا ابن رسول الله! دُلّني على الله ما هو؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني! قال له: « يا عبد الله ! هل ركبت سفينة قطّ ؟» ، قال : نعم .
قال: « فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ، ولا سباحة تغنيك؟»، قال: نعم .
قال: «فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟»، قال : نعم .
قال الصادق (عليه السلام) : « فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا مُنجي، وعلى الإغاثة حيث لا مُغيث ..»([13]).
أقول: ولو أن هذا الرجل كان مُتفطّناً، لتنبّه إلى دليلٍ أدقّ على وجود الله تبارك وتعالى، وهو كلام هذا الرجل، فإنّه لو لم يكن مخبراً من قبل الله تبارك وتعالى لما تمكّن أن يسألني هذا السؤال: فمن الذي يدري أني ركبت سفينة؟! ومن الذي يدري أنّ السفينة قد تكسّرت؟! ومن الذي يدري أني لم أكُن أتقنُ السباحة؟! لا أحد يدري، والإمام يسأله: هل حدث لك هذا الشيء وهو يقول نعم حدث، ثم يتحدّث معه عن شيء خطر في قلبه، فيجيب نعم.
ونقل المصنّف أيضاً رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لابن أبي العوجاء: «كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك: نشوءك ولم تكن، وكِبَرك بعد صِغَرِك، وقوّتك بعد ضعفك، وضعفَك بعد قوّتك، وسِقَمَك بعد صحّتك، وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحُبّك بعد بغضك، وبغضك بعد حبك، وعزمك بعد أناتك، وأناتك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك، وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاءك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائِك، وخاطرك بما لم يكن في وهمك، وعزوبَ ما أنت معتقِدُه عن ذهنك»، قال ابن أبي العوجاء: وما زال يعدد علي قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها حتى ظننت أنّهُ سيظهر فيما بيني وبينه([14]).
ومقصودهُ بعبارة (حتى ظننت أنّهُ سيظهر فيما بيني وبينه) أي حتى ظنّ أنّ الله سيتجسد له!
وأمّا بالنسبة للتعبير المشهور (لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقينًا)، فهذا التعبير تعبيرٌ كنائيٌ، وإلّا فان الله ليس محجوبًا، وراء ستارٍ بحيثُ يُمكن رفع هذا الستار والنظر إليه؛ فإنّه لو كان محجوباً وراء الستار فتعساً لرب يحجبه الستار، كما يروى أن إبليس ذهب إلى فرعون وهو في قصره، مغلقاً أبوابه فدق عليه الباب، فقال فرعون: من؟ فقال إبليس: تعساً لرب لا يعرف من وراء الباب!
والحمد لله أولاً وآخراً.
-------------------------
[1] الكافي للكليني رحمه الله، كتاب التوحيد، باب أنّه لا يعرف الا به.
[2] الكافي للكليني رحمه الله، كتاب التوحيد، باب حدوث الأسماء.
[3] كتاب الإلهيات، المقالة الأولى، الفصل السادس، فصل في ابتداء القول في الواجب الوجود والممكن الوجود، وأن الواجب الوجود لا علة له، وأن الممكن الوجود معلول، وأن الواجب الوجود غير مكافئ لغيره في الوجود، ولا متعلق بغيره فيه
[4] قال تعالى: ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر: الآية 57 ].
[5] صحيح البخاري- كتاب الجنائز - باب ما قيل في أولاد المشركين، وصحيح مسلم- كتاب القدر- باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، وغيرهما، وجاءت بعض النصوص من طرقنا تحملُ مضمون الفطرة على التوحيد، كما في بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله، ج 64، ص 132 و ص 133.
[6] والحديثُ بهذا اللفظ وإن ورد من غير طرقنا، إلّا أنّه ليس كل ما ورد من غير طرقنا فهو مردود، فقد قلنا إنّ حجيّة الرواية عندنا لا تدور مدار كون الرواي ثقةً فحسب، بل لا بُدّ من النظر في القرائن الموجبة للوثوق والاطمئنان، والظاهر أنه يوجد عندنا روايات في هذا المعنى (الشيخ علي الجزيري حفظه الله).
[7] سيأتي لفظ الرواية ومصدرها.
[8] التوحيد للصدوق رحمه الله ص 293، باب إثبات حدوث العالم، ح 3
[9] التوحيد للصدوق رحمه الله ص 290، باب أنه عز وجل لا يعرف إلا به ح 10
[10] الكافي للكليني رحمه الله، كتاب التوحيد، باب حدوث العالم وإثبات المحدث.
[11] هذا كلام السلفية: إذا قُلتم أنّ الله لا أين له، وليس له مكان وليس محدوداً بزمان، ولا ينتقل من مكان إلى مكانٍ وليس على شيء، فإذاً لا شيء، وهذا كله بسبب الفكر المادي، حيث يتصورون أن الموجدات جميعها ماديةٌ، والموجود الذي ليس بماديّ لا وجود له. (الشيخ علي الجزيري حفظه الله)
[12] حق للقوم أن يسموا أنفسهم بالسلفية؛ لأنّ هذا يدل على تخلف (الشيخ علي الجزيري حفظه الله)
[13] التوحيد للصدوق رحمه الله، ص 231 ح 5، باب معنى (بسم الله الرحمن الرحيم)
[14] التوحيد للصدوق رحمه الله، ص 127 باب القدرة ح4