حب علي حسنة لا تضر معها سيئة

موقع الشيخ علي الجزيري يرحب بكم

جاري تحميل المحتوى . . . الرجاء الانتظار

قائمة الاقسام

حب علي حسنة لا تضر معها سيئة

2017/04/18 3133

حديث "حُب علي حسنةٌ لا تضرُّ معها سيئة"

درس الشيخ علي الجزيري حفظه الله ليلة 19 رمضان 1434هـ

نسخة ملف pdf جاهزةٌ للطباعة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة وأزكى التسليم على أشرف الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين، والّلعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

روى محدث أهل السنة ، وحافظهم ، ومؤرخهم ، الذي وصفوه بأنّه (صَلْبٌ في السنّة)، أبوشجاع ، شيروية الديلمي في كتابه (الفردوس) : عن معاذ بن جبل ، عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه قال:
"حُبُّ علي حسنةٌ لا تضرُّ معها سيئة وبغضهُ سيئةٌ لا ينفع معها حسنة"([1])

وربّما اعترض على هذا الحديث بأنّه : مخالفٌ لقول الله تعالى: ﴿ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: 123] .


وقبل أن نُجيب عن هذا الاعتراض، فإننا نذكرُ مقدمةً ، نبيّن فيها تاريخ هذا الاعتراض، ليُعلم أنّه اعتراضٌ قديمٌ ، تجاوزه الزمن ، وإنّما أُعيدَ بسبب ضعف الفطن.



قِدَمَ الاعتراض:

إنّ الاعتراض على هذا الحديث ، وعلى ما وافقه من أحاديث التبشير اعتراضٌ قديمٌ، وإن كانت عبارات الاعتراض تختلف من زمنٍ لآخر، أو كانت أحاديث التبشير التي يُعترضُ به عليها تختلفُ أيضاً، إلّا أنّ روح الاعتراض وجوهره واحدٌ ، والجوابُ عنهُ أيضاً واحد.

فقد سبق مُعْتَرِضَ اليوم إلى هذا الاعتراض ابنُ تيميّة في (منهاج سنته) ([2]) فاعترض على هذا الحديث الشريف:

تارةً: بأَنّه من المعلوم بالضرورة أن من سَرق قطعت يده ، وإن كان محباً لعلي (ع).

وأخرى: بأنّ حُب النبي صلّى الله عليه وآله أعظمُ من حبّ علي (ع)، والسيئة تضرُّ معه.

وثالثة: بأنّ المسلمين مجمعون على أنّ الشرك يضر صاحبه ، وإن كان مُحباً لعلي (ع).

وابن تيمية أيضاً مسبوقٌ في هذا الاعتراض.

فقد روى إمامُ أهل الحديث ، مسلم بن الحجاج في صحيحه : أنّ عُمر اعترض على رسول الله صلّى الله عليه وآله في تبشيره للمؤمنين بالجنة، فقال فيما رواه مسلمٌ في صحيحه :" أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ، مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا، فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ"([3]).

وليت شعري ماذا يصنعُ مسلمُ -ومن يرى صحّة ما جاء في صحيح مسلم- بالحديث الذي رواهُ مسلمٌ نفسه ورواه البخاري أيضاً في مواضع عديدة من صحيحيهما:


منها
: ما جاء في صحيح البخاري عن النبي صلّى الله عليه وآله قال: " ذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الحَرَّةِ، قَالَ: بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ " قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَإِنْ شَرِبَ الخَمْرَ"([4])


ورواه مسلمٌ -وهذا لفظ مسلم- قال صلّى الله عليه وآله: " ذَاكَ جِبْرِيلُ عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ، فَقَالَ: بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ"([5])


فهل يقولون:

كَذِبَ إمامُ المحدّثين مسلم، وعمر لم يزجر النبي صلّى الله عليه وآله عن تبشير أمّته؟!

أو يقولون: كَذِبَ إماما أهلِ الحديث، البخاري ومسلم، وجبريل عليه السلام لم يقل للنبي صلى الله عليه وآله "بشر أمتك"؟!

أو يقولون: إنّ جبريل جاء بها من عند نفسه، ولم يأمره الله سبحانه أن يقول: للنبي صلّى الله عليه وآله "بشّر أمتك"؟! فماذايصنعون بقول الله تعالى: ﴿  بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ ؟! [سورةالأنبياء: 26-27]

أو يقولون: إنّ مسلم والبخاري صادقان، وجبريلُ أمين الله على وحيه، ولكنّ اللهَ أخطأَ وأصاب عُمر، فلما بيّن عمر للنبي صلّى الله عليه وآله أن تبشيرهم بالجنة سيجعلهم يتّكلون ويتركون القيام بالأعمال الصالحة، عرف الله حينها ما في تبشير من آمن بالجنة من المفسدة، فأجاز لنبيّه كتمان تلك البشارة؟!

وليت شعري، إذا كَتم النبي صلّى الله عليه وآله هذه البشارة، فماذا سيصنع بالبشارات التي في القرآن الكريم وهي كثيرة:


منها:
قوله تعالى: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ [يونس: 2]


ومنها:
قوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 47]


ومنها
: قوله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 72].

فهل يقول للنبي صلّى الله عليه وآله لا تفعل، ولا تبلغ هذه الآيات القرآنية، فإني أخشى أن يتّكل الناس..؟!

وكيفما كان، فنحنُ الآن لسنا في مقام التعليق على صحيح مسلم، بل غرضُنا من نَقله هو التنبيه على تاريخ هذا الاعتراض، وأنّه اعتراضٌ قديمٌ، وليس من مواليد القرن الخامس عشر هجري، كما ربما توهِمُهُ بعض الكلمات.

وقد تبين لك أنّه اعتراض موغلٌ في القدم، وإن اختلفت العبارات واختلفت البشارة.



صيغ الاعتراض وألفاظه:

ومن صِيغ الاعتراض وألفاظه ما يلي:

فتارةً يُقالُ: هذا يُوجبُ الإغراء بالمعصية.

وثانية يقال: هذا إبطال للشريعة.

وثالثةً يُقال: هذا يخالفُ ما هو معلومٌ بالاضطرار.

ورابعةً يُقال: هذا يجعل الناس يتّكلون.

وخامسة يُقال: إنّه مخالفٌ لقول الله تعالى: ﴿ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾.

هذه هو الاعتراض وتاريخه.



الجواب على الاعتراض:

وأما الجواب :

فبالنقض ، والحل.


أولاً: الجوابُ بالنقض:

أما الجواب بالنقض فبآياتٍ ورواياتٍ:

أمّا الايات فكثيرةٌ جداً ، ولكنا نكتفي ببعضها:


الآية الاولى:
﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [النساء: 14].

فهل يخَلدُ في النار مَن صدرت منهُ المعصية، وإن كان مؤمنا، وإن تاب من تلك المعصية توبة نصوحاً؟!


الآية الثانية: ﴿فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
[الأنعام: 48].

فلو آمن وأصلحَ، ثم ارتدّ ومات على الكُفر، فهل هو ممن لا خوفٌ عليه ولا هم يحزنون؟!


الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ﴾
[الشورى: 5].

فهل يستغفرُ الملائكةُ لفرعون، وهامان، وجالوت، وعاقر الناقة، وامرأة نوح، وامرأة لوط، أم أنّ هؤلاء كانوا يسكنون في كوكبٍ آخر غير الأرض؟!


الآية الرابعة: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
[البقرة: 274].

فهل الفُجّار الذين يسهرون الليالي في مجالس القمار والخمور، وينفقون فيها أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانيّة ، داخلون في الموعودين بأنَّ (لهم أَجرهم عند ربهم ولا خوف عليه ولا هم يحزنون)؟!

فهذه بعض النقوض من القرآن الكريم، وإن كانت الآيات التي يُنقضُ بها على هذا المعترض أو ذاك آياتٌ كثيرةٌ لكنّ المقام لا يسع لعُشرِها فضلاً عن إحصائها جميعا.


وأمّا النقضُ على المعترض مِن الأحاديث:

فحيثُ إنّ المعترضين على حديث (حب علي حسنة) مختلفون في مشاربهم، ومنهم مَنْ لا يعبأُ بالروايات التي تخالفُ ما فَهِمَهُ من القرآن الكريم، فلا حاجة لذكر الأحاديث الواردة من طُرقنا، وإنّما نكتفي بذكر الأحاديث الواردةِ من طُرقِ أهل الخلاف:


الحديث الأول:
 ما رواه البخاري ومسلم عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه قال له جبريل " بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ"([6])


الحديث الثاني:
ما رواهُ البخاري عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه قال: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلاَثَةٌ مِنَ الوَلَدِ، كَانُوا حِجَابًا مِنَ النَّارِ»، قَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: «وَاثْنَانِ»"([7]).

فهل لهذا الحديث اطلاقٌ، فيقال: من مات لها اثنان من الولد فلتفعل ما تفعل من الموبقات، كأن تقتل المؤمنين، وتغتابهم ما أرادت؟!


الحديث الثالث:
مارواه البخاري ومسلم، ففي البخاري: " مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ البَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ"([8]) وفي لفظ مسلم: " مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ" ([9])

فهل لهذا الحديث إطلاقٌ، يشملُ حتى من كان كافراً، فيقال: مَنْ رزقه الله بنتاً، أو (من إبتلاهُ الله ببنت) فليفعل ما شاء من الموبقات، ولا يلزَمُه أن يكون من المسلمين؛ لأنّ ابنته ستكونُ ستراً لهُ من النار؟!

وهل فهم أحدٌ من أهل الإسلام إطلاقاً من هذا الحديث؟!!


الحديث الرابع:
ما في الصحيحين أيضاً

ففي لفظ البخاري قال النبي صلّى الله عليه وآله: " أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا، اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ" ([10])

وفي لفظ مسلم: " أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا، اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ" ([11])

فهل إطلاق لفظ البخاري مقصودٌ، وأنّ من أعتق مسلماً فقد استنقذ نفسه من النار، فليفعل ما شاء، وإن أراد أن لا يدخل في الإسلام فلا يدخل، فإنه آمنٌ من النار؟!

وهل اطلاق لفظ مسلم مقصودٌ، فيقال: إنّ من كان مسلما فاعتق مسلما كان ذلك له وقاية من النار، فلا يلزمه بعد ذلك أن يبقى على الإسلام، وإذا بقي على الإسلام فلا يلزمه أن يتقيّد بحدود الله؟!


الحديث الخامس:
ما جاء في البخاري أنّهُ صلّى الله عليه وآله قال:  " «أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا» وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى" ([12])

هذه نقوضٌ تردُ على من أَخذ بإطلاق حديث "حب علي حسنةٌ لا تضرُّ معها سيئة".



ثانياً: الجوابُ بالحَلّ:

وأمّا الجوابُ الحَلَّيُّ، فإنّ الاعتراض على الحديث الشريف إنّما نشأ من الغفلة عن أصلٍ أصيل، ورُكن ركين، بيّنه علماءُ أصولِ الفقه منذ قرون، وجرى عليه الفقهاءُ والمفسّرون، ومَن له باعٌ في العلم، وغَفِلَ عنهُ مَنْ لا ناقة له في أصولِ الفقه ولا جمل، وهذا الأصلُ هو :

إنّ ألفاظ العموم والـمُطْلَقَات على ثلاثة أقسام:


القسم الأول:
ما نعلم باليقين أن عمومه مقصود.

مثل قوله تعالى: ﴿ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾   [البقرة: 282]  وقوله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾[هود:6]


والقسم الثاني:
ما نعلم باليقين أنّ عمومه غير مقصود.

مثل الآيات التي ذكرنا في النقض.


والقسم الثالث:
ما لا يقين بإرادته، ولا يقين بعدم إرادته، وإنّما ظاهره أنّه مقصودٌ، فيؤخذ بظهوره.

 فمن اعترض على تبشير المسلمين بالجنّة بأنهم -اذا بشروا اتكلوا- إنما بنى اعتراضه على فهمه إطلاق التبشير لكل من قال لا اله الا الله، ولو ارتدّ ومات على الكفر.

وحيث عرفت أن مثل هذا التبشير لا يَفهمُ منهُ أهلُ العربية هذا الاطلاق، فلا موضع لهذا الاعتراض.

ومن اعترض على تبشير محبّي عليٍ عليه السلام بأن "حُبّهُ حسنةٌ لا تضر معها سيئة" باطلٌ بالضرورة لأنّ الشرك يضر صاحبه وإن كان محباً لعليٍ عليه السلام، بل يضره حتى مع حب رسول الله ص وآله، فإنّما بنى وهمهُ هذا على توهم إطلاق الحديث حتى لمن لم يمت على الإسلام، وحتى بالنسبة للحدود والتعزيرات.

وحيث عرفت أنّ هذا الاطلاق غيرُ مقصودٍ، وأنه لا ظُهور للحديث فيه، فقد انهدم أساس هذا الاعتراض.

ومن اعترض على تبشير محبي علي عليه السلام بأنّهُ يُخالفُ قوله تعالى: ﴿ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، إنّما بنى اعتراضه على توهم إطلاق الآية حتى لمن تاب وأصلح، وحتى للمؤمن، وحيث أنّ إطلاق الآية غيرُ مقصودٍ، فلا محلّ لاعتراضه.

وهذا باب واسعٌ، غفل عنه من لا باع لهُ في علم الأصول -كما قلنا-، وقد نبّهَ عُلماء أصول الفقه من قديم الزمان على أن العام على قسمين:


الاول:
ما علمنا أنّ عمومه مقصودٌ جزماً، مثل ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات: 16].


الثاني:
ما علمنا جزما أن عمومه غير مقصود مثل: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ [الأحقاف: 25].


قال إمام الشافعيّة في كتابه (الرسالة) :

باب بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر، يراد به كله الخاص:

"وقال الله تبارك وتعالى:﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ [آل عمران: 173]، فإذ كان مَنْ مع رسول الله ناسً، غير من جمع لهم من الناس، وكان المخبرون لهم ناسً، غير مَن جُمِعَ لهم، وغير من معه، ممن جمع عليه معه، وكان الجامعون لهم ناساً-: فالدلالة بينة مما وَصَفْتُ: من أنه إنما جمع لهم بعضُ الناسِ دون بعضٍ، والعلم يحيط أن من لم يجمع لهم الناس كلهم، ولم يخبرهم الناس كلهم،ولم يكونوا هم الناس كلهم... وإنما هم جماعة غير كثير من الناس، الجامعون منهم غيرُ المجموعِ لهم والمخبرون للمجموع لهم غيرُ الطائفتين، والأكثر من الناس في بلدانهم غير الجامعين ولا المجموع لهم ولا المخبرين. وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ،إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: 73]

قال: فمخرج اللفظ عامٌ على الناس كلهم. وبَيَّنٌ عند أهل العلم بلسان العرب منهم أنّه إنما يُرادُ بهذا اللفظ العامِّ المخرجِ بعضُ الناسِ دونَ بعضٍ"([13]).  



 وشدّد ابن عبد البر على أهمية هذا الباب، فقال في كتابه (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد):

" ومعروف من كلام العرب الإتيان بلفظ العموم والمراد به الخصوص، ألا ترى إلى قول الله عز و جل: :﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ ، وهذه الإشارة في الناس إنما هي إلى رجلٍ واحدٍ، أخبر أصحاب محمد صلى الله عليه [وآله] وسلم أنّ قُريشا جمعت لهم، وجاء اللفظ كما ترى على العموم.

ومثلهُ ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأحقاف: 25].

﴿مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ﴾ [الذاريات: 42].

ومثلُ هذا كثيرٌ لا يجهلهُ إلّا مَن لا عناية له بالعلم"([14])

 

 

وقال أبوحيان الأندلسي في تفسيره (البحر المحيط) في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228]، قال:

"وإطلاق العام ويراد به الخاص لا يحتاجُ إلى دليلٍ لكثرته"([15])

وقال الطاهر بن عاشور في (تفسير التحرير والتنوير):

"لا يجوز تعميم ما قُصد منه الخصوص، ولا إطلاق ما قصد منه التقييد؛ لأنّ ذلك قد يفضى إلى التخليط في المراد، أو إلى إبطاله من أصله.

وقد اغتر بعض الفرق بذلك .

قال ابن سيرين في الخوارج : إنهم عمدوا إلى آيات الوعيد النازلة في المشركين فوضعوها على المسلمين، فجاؤوا ببدعة القول بالتكفير بالذنب، وقد قال الحرورية لعلي رضي الله عنه يوم التحكيم ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ [يوسف: 40]، فقال علي : كلمة حق أريد بها باطل وفسرها في خطبة له في نهج البلاغة".([16])  



وهذا هو الجواب عن هذه الشبهة وهذا الاعتراض، بالنقض والحل.

 

 

 

صحّة الحديث:

وأمّا الحديث الذي رواهُ شيروية الديلمي فهل هو حديثٌ صحيح، أم لا؟

أما عند الشيعة : فالأمر في الحديث ظاهر ولا يحتاج إلى بيان([17]).

وأما عند أهل الخلاف : فإننا نذكرُ للحديثِ شواهد تثبتُ صحته لغيره:



الشاهد الأول:
ما رواهُ البخاريّ ([18]) ومسلم ([19])، واللفظ واحدٌ عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه قال: " «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»".

فما هو الفرق بين هذا الحديث وبين حديث "حب علي حسنة"؟!

اللهم إلّا ذكر اسم علي عليه السلام في حديث الترجمة، ونحنُ نعلمُ أنّ نفوس القوم لا تطيبُ بذكر اسمه عليه السلام.

فلو أننا غضضنا الطرفَ عن حديث الترجمة، ونظرنا إلى الحديث المروي في الصحيحين («المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ») لكان دالاً على أن مُحب عليٍ عليه السلام مع علي عليه السلام.

وهذه المعيّة إن أخذنا بالإطلاق -كما فعل المعترض- فهي معيّة مطلقةٌ في البرزخ، والمحشر، وعرصات القيامة، وفي درجته في الجنة.

ولعله سيقول: إن حديث (المرء مع من أحب) حديثٌ مقبولٌ، فإنّه مرويٌ في الصحيحين، ولكن إطلاقه ممنوع، بل هو مشروط ومقيد بما قام الدليل على اشتراطه وتقييده.

فلماذا لا يقبل الحديث الذي نحن بصدده (حب علي حسنة)، ويقال: إن الحديث معناهُ صحيحٌ، ولكن إطلاقه ممنوعٌ، بل لا بُدَّ أن يقيّد بقيود قام عليها الدليل، من قبيل أن حُبّة لا يَمنعُ من إقامة الحدود والتعزيرات على من أَحبّه إذا فعل ما يستوجبُ حداً أو تعزيراً في الدنيا، وأمّا ما لم يقم دليلٌ على استثنائه، فإن الحديث يدل عليه بإطلاقه.



الشاهد الثاني:
ما رواه البخاري([20]) ومسلم([21]) أيضاً عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه قال في حق الحسن (ع) واللفظ واحد: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ".

وفي لفظٍ آخرٍ لمسلم: " وَأَحْبِبْ مَنْ يُحِبُّهُ".

فقد دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله لمَن أحبَّ الحسن عليه السلام أن يحبه الله، ومن أحبّه الله سبحانه فإن حكمه يعلم مما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما ايضاً، واللفظ للبخاري عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه قال: " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ."([22])



الشاهد الثالث:
ما رواهُ الترمذي في سننه، وحكم بحسنه([23]) ، ورواه المقدسي في الأحاديث المختارة ([24]) وقال فيه: إسناده حسن، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أخذ بيد الحسن والحسين فقال: "مَنْ أَحَبَّنِي وَأَحَبَّ هَذَيْنِ وَأَبَاهُمَا وَأُمَّهُمَا كَانَ مَعِيَ فِي دَرَجَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ".



الشاهد الرابع:
ما رواهُ مسلم في صحيحه عن علي (ع) أنّه قال: "وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ ، إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ  إِلَيَّ أَنْ " لَا يُحِبَّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ ، وَلَا يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِق"([25]).

فمن أحب علياً عليه السلام فهو مؤمن، ومن كان مؤمناً دخل في قول الله تعالى: ﴿ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 5]

فماذا يريد مُحبُّ عليٍ عليه السلام فوقَ هذا؛ فقد حكم رسول الله صلّى الله عليه وآله أَنهُ لا يُحبّه إلّا مؤمنٌ ووعد الله سبحانه المؤمنَ بجناتٍ تجري من تحتها الانهار خالداً فيها، وبأن يُكفّر عنه سيئاته، فمن قال إنّ السيئة من محب علي عليه السلام تضر، فهل هو مُحَكّمٌ لرسول الله صلّى الله عليه وآله أو رادٌ عليه؟ وهل هو مُسَلّمٌ بما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله أم مكذبٌ له؟!

 قال تعالى: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْد مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَات فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه عَزِيز حَكِيم﴾ [البقرة: 209] .

والحمد لله رب العالمين.

 

[1]  كتاب فردوس الأخبار بمأثور الخطاب، للحافظ شيرويه بن شهردار الديلمي، ج 2 ص 227،  الطبعة الاولى (1407 هـ)، دار الكتاب العربي: بيروت، لبنان.

[2]  منهاج السنّة، لابن تيميّة،(ت محمد رشاد سالم)، الطبعة الأولى (1406 هـ)،الناشر:جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: ج 5ص73-75

[3]  صحيح مسلم- كتاب الإيمان- باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا

[4]  صحيح البخاري- كتاب الرقاق- باب المكثرون هم المقلون

[5]  صحيح مسلم- كتاب الزكاة- باب الترغيب في الصدقة

[6]  تقدم تخريج الحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم.

[7]  صحيح البخاري-  كتاب الجنائز-  باب فضل من مات له ولد فاحتسب

[8]  صحيح البخاري-  كتاب الزكاة -  باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة

[9]  صحيح مسلم- كتاب البر والصلة والآداب-  باب فضل الإحسان إلى البنات

[10]  صحيح البخاري- كتاب العتق

[11]  صحيح مسلم-  كتاب العتق-  باب فضل العتق

[12]  صحيح البخاري- كتاب الأدب- باب فضل من يعول يتيما

[13]  الرسالة للإمام الشافعي، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية بيروت : لبنان: ص 58 - 60

[14]  التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، طبعة 1387، الناشر : وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية - المغرب ، 1387: ج 21 ص 265- 266

[15]  تفسير البحر المحيط لـمحمد بن يوسف الشهير بأبي حيان التوحيدي، الطبعة الأولى (1413 هـ) دار الكتب العلميّة: بيروت، لبنان، ج 2 - البقرة 177 - آل عمران 101، ص 196

[16]  تفسير التحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور، طبعة 1984م، الدار التونسيّة للنشر،  ج 1 ص 50

[17]  راجع ما كتبهُ الشهيد السيّد نور الله التستري رحمه الله في الباب 226 من كتاب إحقاق الحق وإزهاق الباطل، ج 7 ص 257- 259، وما كتبه في الباب 148 من ج 17 ص 233-234، وكذلك ما أورده الشيخ المجلسي رحمه الله في باب 87 : حبه وبغضه صلوات الله عليه ، وأن حبه ايمان وبغضه كفر ونفاق ، وأن ولايته ولاية الله ورسوله ، وأن عداوته عداوة الله ورسوله ، وأن ولايته عليه السلام حصن من عذاب الجبار ، وأنه لو اجتمع الناس على حبه ما خلق الله نار، من بحار الأنوار ج 39ص 246 وما بعدها.

[18]  صحيح البخاري-كتاب الأدب - باب علامة حب الله عز وجل

[19]  صحيح مسلم- كتاب البر والصلة والآداب- باب المرء مع من أحب

[20]  صحيح البخاري- كتاب اللباس- باب السخاب للصبيان

[21]  صحيح مسلم- كتاب فضائل الصحابة- باب فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما

[22]  صحيح البخاري- كتاب التوحيد- باب كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة

[23]  سنن الترمذي - كتاب المناقب - باب مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه

[24]  الأحاديث المختارة- آخَرُ- حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَلَيْهِمَا السَّلامُ .، وجاء مثله أيضاً في مسند أحمد - مسند العشرة المبشرين بالجنة - مسند الخلفاء الراشدين - ومن مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه

[25]  صحيح مسلم-  كتاب الإيمان- باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي من الإيمان وعلاماته.


التالي السابق